د. خالد تركي: نافذتي تُطلُّ على رواية “قِلادَةُ ياسَمين”

د. خالد تركي

نافذتي تُطلُّ على رواية “قِلادَةُ ياسَمين”

القُدسُ هي قدسُ أقداسِنا، هي زهرة المدائن، هي عروس المدائن، هي عروستنا المقدَّسة، هي بيت المقدِس، هي ابنة الأكابر وهي مركزُ العالم، هي مركز الكون، هي محور العالم، القُدس هي الرُّوح وهي روحُ القُدس، هي أطهرُ بقاعِ الأرض، تسكن قلوب الأحرار وأفئدة شرفاء العالم، فعيونهم ترحلُ إليها كلَّ يومٍ إلى أن يحلَّ الوثاق، وتُكَسَّر الأصفاد، وعلينا أن نشدَّ أزرها ونؤازرها..

القُدسُ هي تُحفة القُدُّوس على الأرض..

“قِلادَةُ ياسَمين” هي الرِّواية الخامسة للكاتب الفلسطينيِّ، ابن مدينة الخليل الصَّامدة، عامر أَنور سُلطان، هي روايةٌ ما بين القُدس وباب الخليل ومقام النَّبيِّ موسى..

“منذ فجر التَّاريخ والقُدسُ قمرٌ لا ينطفئ”، (ص9)، “القُدسُ قلادةُ الذَّهب على صدر الأمَّةِ تتلاقى وتتشابكُ الأحياء فيها كما تتشابكُ ليرات القِلادة، لا يتغيَّرُ شكلها مهما غطَّى صدأ الإحتلالات بعضَها أو كلَّها، هي ذهبٌ لا يتفاعل مع غير جنسه، تحتفظُ ببريقها مهما اكتوت بالنَّار والخذلان، على جبين كلِّ حيٍّ وحارةٍ يبقى اسمُها العربيُّ منقوشًا بيد التَّاريخ كما نقشَت يدُ الصَّائغِ الأسماء على القِلادةِ” (ص9).

القُدسُ والقِلادةُ وياسمين، الجدَّة و”الإبنة” والحفيد جورج وموسم النَّبي موسى، هم المركَّب الأساس في الرِّواية. حيث تحكي الرِّواية قصَّة القُدس خلال قرن من الزَّمن أَو يزيد، مائة وعشرين عامًا، منذ العام ألفٍ وتسعمائةٍ وعشرين إلى يومنا هذا..

عُمر القِلادة مائة عامٍ حيث كانت على صدر العروس ياسَمين، منذ أن تزوَّجت، في العام ألفٍ وتسعمائة وعشرين، فبعد أَن مرَّ على زواجهما أُسبوعان، قَتل زوجَها في باب الخليل بالقدسِ، على مدخلِ حارةِ الأرمن، جنديٌّ بريطانيٌّ (جدُّ جورج) وسرق منها القِلادة حين انتزعها من على رقبتها، فهذ الجنديُّ القاتل المجرم قتل زوجَ ياسمين وسرق منها القِلادةَ، وتُركت ياسمين وحيدةً لوحدها، حين منع جنود الإستعمار البريطانيِّ أهلَ الخليل دخولَ القُدس ليحتفلوا وليُشاركوا أهل القُدس في

احتفالاتهم بموسم النَّبيِّ موسى، الذي كان يُقامُ على مشارف مدينة أّريحا، وهذه الإحتفالات هي جزءٌ من تاريخ القُدس الشَّريف، ولا زال موسم النَّبِّ موسى يُقامُ كلَّ عامٍ في الثَّاني من نيسان..

تقول ياسمين حفيدة ياسمين الجدّة عن ذلك الجنديِّ البريطانيِّ جدَّ جورج: “أَطلق النَّار على جدِّي أمام عينَي عروسِهِ، وقبل أَن تُفارقه روحُهُ جعله يراه وهو يخلعُ القِلادة من عنقها عُنوةً، ورآه يُحوِّل فرحة الإحتفال بموسمِ النَّبيِّ موسى مأتمًا للعروس التي عشِقها، قتله أَمام عينيْها وتركَ في قلبها لوعةً تملأ العالم سوادًا، أَتعلم ما يعني أَن يموتَ الحبيبُ أَمام نظر حبيبته وبين يدَيه؟ ..لقد أَمضت حياتها تلعنُ ذلك الوحشَ الآدميَّ ..سنظلُّ ندعو باللعنة وغضب الله عليه وعلى أَبنائه إلى يوم الدِّين وبكلِّ الدَّعوات التي كانت تدعو بها في المسجدِ الأقصى وفي زوايا الأولياء” (ص143).

وهنا اجتمع الموتُ مع الموتِ ليكون موتين موت الزَّوج، الإنسان وابن البلد الرَّازح تحت الإحتلال وبقاء الإحتلال الذي يقتل كلَّ شيئٍ، يقتل البشر والحجر والشَّجر والثَّمر..

..”كَم كُنتَ وحدَك”

لكنَّ الغلبة دومًا لإرادة الشُّعوب، فإنَّ الشُّعوب حيَّةٌ لا تموت، مهما

تمادى المُحتلُّ في غيِّهِ، ستنتصرُ، وحتميَّتها النَّصرُ والظَّفرُ..

يقول الشَّاعر راشد حسين:

ولو قضيتم على الثُّوَّار كلِّهُمُ

تمرَّد الشَّيخ والعُكَّاز والحجرُ

إنَّ اللعنةَ “تلاحقُ المجرمين إلى أقاصي الأرض، تلاحقهم في صحوهم ونومهم وفي الآفاق التي ينظرون إليها”(ص 73).

وكانت الجدَّة العجوز تتذكَّر ياسمين وتلك اللحظة التي لم تُفارقها البتَّة “إذ كانت تقول على الدَّوام الله ينكبهم الإنجليز رمَّلوا أم إبراهيم وسرقوا كردانها (إسم محليٌّ للقِلادة الذَّهبيَّة)” (ص 121).

يعودُ الجنديُّ البريطانيُّ إلى بريطانيا حاملاً معه القِلادة المسروقة التي أعجبته وهي على صدر ياسمين، عاد وفي جعبته مسروقات أخرى على أَنواعها من تحفٍ ومجوهراتٍ وأشغالٍ يدويَّةٍ ونقوشٍ وأغراضٍ ثمينةٍ أخرى، حيث أعتاد على السَّرقة لبيعِها في الأسواق البريطانيَّة أو الإحتفاظ بها لنفسِهِ..

سرقوا البلاد ونهبوها وتركوها لتنهشَها الضِّباع، وحرموا أهلها من العيش الكريم في وطنهم بسلامٍ ووئامٍ وسكينةٍ..

تمامًا كما فعل الجنديُّ البريطانيُّ بياسمين وزوجها، أسبوعين من يوم زفافهما..

قبل أن يعودَ هذا الجنديُّ البريطانيُّ وزوجته إلى بلاده، وبعد أن كان عاقرًا، بعد أَن أُصيب إصابةً صعبةً “..كان مكتوبًا أنَّه أُصيبَ في إحدى المعارك إصابةً حرمته من الإنجاب كأَيِّ رجلٍ، سرٌّ أَخفاه على زوجته الصَّغيرة..”(ص 232)، حيث قام باختطاف طفلةٍ رضيعةٍ عربيَّةٍ كانت قد وُلدت للتوِّ من أَحد مستشفيات يافا، “كانت تلك الفترة أواخر الوجود البريطانيِّ في بلادنا، حيثُ أقام في كيبوتس قريب من تلِّ أبيب واتَّفق مع أصدقاءٍ له على ردِّ الجميل، لطالما قدَّم لهم الحماية والمعلومات ولطالما أقدم على اقتحام وتفتيش أماكن كانوا يريدون معرفة ما بداخلها ولا يستطيعون لأنَّهم عصابات صهيونيَّة، لكنَّه كان يستطيع فعل ذلك، طلب منهم مقابل كلِّ ذلك أن يُغيروا على البيوت العربيَّة ويأتوه بطفلةٍ صغيرةٍ، في الليل أغاروا على مستشفى يافا، واختطفوا طفلةً مولودةً للتوِّ، بل ورتَّبوا له الوصول مع زوجته والطِّفلة المخطوفة إلى إحدى مستشفيات اليهود لتسجيلها باسميهما، ومن بعدها عادا بها إلى لندن وكأنَّ شيئًا لم يكُن..” (ص 233)..

هذه هي جدَّةُ جورج البريطانيَّة..

ذكَّرني هذا الحدث، اختطافُ الطِّفلة العربيَّة من مستشفى يافا، باختفاء أطفال يهود اليمن، حال وصولهم مطار اللدِّ في عمليَّة تهريبهم من اليمن سُمِّيت بعمليَّة “بساط الرِّيح” حيث اختطفوهم، في مطلع خمسينات القرن الغابر، وكان عددهم كثيرًا جدًّا، اختطفوهم من حضنِ أُمهاتهم وباعوهم للعائلات الأشكنازيَّة، في عمليَّة منهجيَّة مدروسة بإتقان..

“وخلصت الإستنتاجات التي توصَّلت إليها ثلاث لجان رسمية منفصلة أقيمت للتَّحقيق في القضيَّة بالإجماع إلى أن غالبيَّة الأطفال دُفنوا بعد موتهم بسبب الأمراض”..

غصَّة في قلوب أمَّهات اليمن، وغصَّة في قلوب أُمَّهات بلادي إلى يوم الحقِّ..

﴿..أُولَـٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ..﴾..

لقد سقطت اللعنة على الجُنديِّ البريطانيِّ المحتلِّ وأُمِّه وعلى زوجتِهِ،

الأولى تُلقي بنفسها من الطابق السَّابع من العمارة التي تسكنُها، والثَّانية تنتحرُ بابتلاع كميَّةٍ كبيرةٍ من الأدوية، انتحرتا في ذات الوقت الذي كانت تُقام فيه أعياد النَّبي موسى في أوائل شهر نيسان، أمَّا الجنديُّ المجرمُ واللصُّ فمات في الجزيرة العربيَّة خلال خدمته في الجيش البريطانيِّ هناك، حيث “وُجدَ ميِّتًا في معسكرِهِ في البحرين” (ص68)، أو بحسب “..ملفَّات جدِّه أَنَّه مات منتحِرًا في قاعدته العسكريَّة في البحرين، أَطلقَ النَّار من المسدَّس على رأسه”..(ص 73).

تُرى متى تحلُّ اللعنة على الغزاة، ليعيش عالمُنا بمشرقَيه بسلام واطمئنان وهدوء وسعادة..

متى تسقُطُ اللعنةُ على رؤوس الغزاة، لتنعمَ بلادي بالوئام والأمان..

يقول الشَّاعر الإنسان سميح صبَّاغ ابن قرية البقيعة الجليليَّة، في قصيدته “دمي يُطاردُكُم”:

لن تهربوا من غضبي ومن جحيم نقمتي

دمي على أبوابكم

يسمُّ نومكم ويحكي قصة الرَّحيلِ

والشِّتاءِ والتَّشرُّدِ

لن تَهربوا

ماشٍ أنا إليكم اتبعُكم

خطاي خلف خطوكم

وانتصَبَ الجرحُ كمينًا للعِدى..

تأخذ المرأة حيِّزًا رائعًا في الرِّواية، في تنظيمات النِّضال والمقاومة

وتجنيد نساء البلاد والوطن العربيِّ وحشدهم بوقفة بطوليَّة إلى جانب الرِّجال ﴿..كأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ..﴾ لدعم نضال أهل فلسطين، من أجل حرِّيَّته واستقلاله فوق تراب وطنِهِ لينعم فيه كباقي الأمم والشُّعوب..

لقد توجَّه جورج ود. جمال (ابن مخيَّم الدهيشة) لإيجاد ضالَّتهما، صاحبة تلك القِلادة، إلى الجمعيَّات النِّسائيَّة “هنَّ حارسات الذِّكرى، وهنَّ القلوب التي لا تنسى، وهنَّ من يحفظنَ ما يسقط من تفاصيل التَّاريخ”(ص105). “نساء حملنَ رسالة شعوبهنَّ، وناضلنَ سياسيًّا إلى جانب الرِّجال بوعيٍ وفكرٍ أَثارا دهشَته” (ص 107).

هنا يعرف جورج، الشَّابُّ البريطانيُّ، حفيدُ الجنديِّ، أنَّ عليه العثور على صاحبة القِلادة لإرجاعها اليها، بحسب ما قيل له، حتَّى يزيل اللعنة عنه، التي لحقت به ولم يُشفهِ أَيُّ دواء وأيَّة عقاقير في إنجلترا، حيث جاء إلى بيت المقدس ليُفتِّش عن تلك المرأة، عسى ذلك يشفعُ له ويشفيه من كوابيسه وقلقه واضطراباته النَّفسيَّة التي تخيفه..

وهنا في القُدسِ يجد الفرق الشَّاسع بين ما كانوا قد لقَّنوه عن بلادي وأَهل بلادي، “..أيُّ تفاصيلَ تلك التي تغيبُ عن وعي المجتمعات الغربيَّة وأَيُّ بؤسٍ وسذاجةٍ تحملُها عبارة أَرضٌ بلا شعب؟ وأَيُّ كذبةٍ تلك التي بَنَت عليها القوى المنتصرة في الحرب العالميَّة الثَّانية هذا الواقع المنافي للحقيقة” (ص 127). ويُناقش جورج سائق سيَّارة الأُجرة اليهوديَّ، حال وصوله إلى البلاد في مطار اللدِّ، “لكنَّكم تقولون ما قالته بريطانيا سابقًا بأنَّ هذه الأرض بدون شعبٍ وأَتيتم لأنَّ لا أَرضَ لكم صحيح؟ ..إذًا من كنتم تقاتلون هنا لتشقُّوا الطَّريق إالى القُدس؟ ومن أُولئك الذين دمَّروا كلَّ هذه العربات؟” (ص 30). ويستنتج جورج “..رأيتُ كلَّ شيئٍ بعيني، أَهل البلاد هناك يعيشون الظُّلم الذي سبَّبته لهم بلادنا”(ص 68)..

قالت ياسمين: “هؤلاء المجرمون هم من أَتوا بالغرباء وهجَّروا وقتلوا شعبنا وأَسكنوهم مكاننا هؤلاء هم سبب البلاء..”(ص 144)

يقولون في بريطانيا “لكنَّها كانت أَرضًا بلا شعب، هل تُكذِّب بلفور العظيم؟”(ص 68).

يرى جورج بأُمِّ عينه جرائم الإحتلال وبطشه وحقده وفتكه بالشَّعب إذ لا يُفرِّق جنديُّ الإحتلال بين طفلٍ أَو شابٍّ أَو كهلٍ، يقتلون عن قصدٍ وإِصرارٍ، وتعمُّدٍ، إنَّ غايته ونيَّته القتل لإرهاب وتخويف وتفزيع وتهديد أَهل بلدي “..كان جنودٌ قد أَطلقوا النَّار على طفلٍ لم يتجاوز الرَّابعة عشرة من العُمر ويلتفُّون حوله، يمنعون أَيَّ أّحدٍ من الإقتراب منه أَو محاولة إنقاذه رأى بأُمِّ عينيه كيف تنهار البشريَّة هنا أمام مشهدٍ يسيل فيه دمُ طفلٍ على مهلِ، دون السَّماح حتَّى لمحاولة إنقاذ حياته..”(54).

هنا نقطة التَّحوُّل لجورج من بريطانيٍّ يساند جرائم الإحتلال، مقتنع بما لقنُّوه من أكاذيب عن الأرض بلا شعبٍ وعن الشَّعب الذي لا وطن له، إلى إنسانٍ مساندٍ لقضيَّة شعبي وحرِّية بلادي من نير الإحتلال، مبيِّنًا لنا مدى جهل وتجاهل الغرب بريطانيا وفرنسا(أصل المشكلة) بقضيَّتنا..

وهنا تظهر مكانة أبناء شعبي في شرح القضيَّة وتبيان الحقِّ في الوطن، من سائق سيَّارة الأجرة إلى بائع الهدايا التِّذكاريَّة، إلى نساء الوطن وإلى إبن الدهيشة، وتظهر له فنون الهندسة المعماريَّة والبناء الرَّاقي الجميل والمتناسق..

يلتقي ببلال وقاسم ود. جمال..

علينا أَلا نتوانى في شرح مدى صدقِ وشرعيَّة قضيَّتنا وعدالتها، علينا تبيان الحقيقة للعالم..

علينا أَن نعمل من أَجل أَن يُصبحَ أَملُنا حقيقةً..

يقول الشَّاعر:

الأمل يصبح حقيقة من فتاةٍ زَيِّ الرِّجال

الأمل يصبح حقيقة من سواعدِ العمَّال

الأمل يصبح حقيقة من فلاحٍ يزرعُ الجبال

إزرعوا بلا خوف

الطُّوفان لازم يزول..

نعيش في الرِّواية تاريخَ القُدس وحاراتها وشوارعها وأزقَّتها ومساجدها وكنائسها ومدارسها وأَديرتها ومزاراتها وعائلاتها وشخصيَّاتها حيث يقوم بجولته معنا في حارة السَّعديَّة والقطمون والطَّالبيَّة والشَّيخ جرَّاح بسفاراتها وباب العمود وباب الخليل، وباب الأسباط ومقبرة باب الرَّحمة والمصرارة، ومتحف فلسطين للآثار والتَّغييرات الإحتلاليَّة التي حصلت به بعد نهبه..

وعرَّفنا أيضًا بموسمِ النَّبي موسى..

فكما لأهل يافا واللد والرَّملة عيد النَّبي روبين كذلك للقُدس عيدُ النَّبي موسى، وعيد النَّبي شعيب في الجليل، وعيد مار الياس في حيفا، وعيد النَّبي صالح في الرَّملة ورام الله وعيد مار جريس في مدينة اللدِّ وغيرها من الأعياد..

لكلِّ مدينةٍ شفيعُها..

لقد اختار الكاتب للجدَّة والحفيدة أَن تحملا نفس الاسم ياسمين، وهذا يدلُّ على الاستمراريَّة في الحياة والوجود والنَّهج والهدفِ..

والياسمن زهرة رائعة الجمال، فوَّاحة العطر، خاصَّةً ياسمين دمشق الفيحاء، إذ ترمز إلى الحبِّ والبهجة والطَّمأنينة والسَّعادة، ويُقال أَنَّ الأسم ياسمين له دلالة للمرأة العصاميَّة والشُّجاعة، صاحبة الإرادة القويَّة والثَّبات والعزيمة، ورفض الذَّات والإيثاريَّة..

وحين وصلت القِلادة صاحبتَها لم تترك المعانة والكوابيس جورج بل استمرَّت، وهنا يصلُ جورج إلى قناعة: “أَنَّ روح زوج ياسمين ربَّما هي التي تُعذِّبه وليست القِلادة..”(ص 193)..

لقد شعر من كاهن الكنيسة في بريطانيا بعد أَن استنفذ كلَّ قواه لمعرفة سبب كوابيسه وكآبته “يريدني أَن أعذرَ القاتل وأتَّهم الضَّحيَّة”.. (ص195).

فعندما رفع جورج دعوةً للقضاء البريطانيِّ لتعويض عائلة ياسمين عن الغبن الذي لحق بعائلتها من قتلٍ وسرقةٍ وإجحافٍ وافقت المحكمة واعترفت بحقِّها وأرادوا تعويض العائلة، لكنَّ ياسمين رفضت بإصرار قائلة إنَّ القضيَّة ليست شخصيَّة ومحصورة بي بل إنها قضيَّة شعبٍ وقضيَّة وطن مُغتصب..

“..أنَّ الأمر ليس ثأرًا شخصيًّا، إنَّها قضيَّة وطن..”(217).

الأمر لم يُعجب السُّلطات البريطانيَّة في تصرُّف جورج وقرَّرت إحالته للقضاء بتهمة الخيانة..

وعلى ما يبدو، فقد أَجهزوا عليه داخل السِّجن بعد أَن أَدخلوا عليه من أَصحاب ظلال جدِّه وشنقوه، واتَّهموه بالانتحار، تاركًا جنينًا في رحم زوجته الاسكتلنديَّة التي ساندته في طريقه ودعمته فكريًّا ومادِّيًا ومعنويًّا..

“لقد ظنُّوا أَنَّ موته سيقتل الحقيقة..”(224).

“..لم يسرقوا أَموال العربِ وأَراضيهم وبيوتهم وأَحلامهم بل أَكثَر من ذلك بكثيرٍ، أَرادوا سرقة مستقبلهم، ولا زالوا يحاولون قتل الأَمل إلى اليوم” (ص 233)..

لقد تمَّت قراءتي لروايتين الأولى “إيفانوف في إسرائيل” للكاتب الغزِّيِّ كمال صبح، ورواية “قلادة ياسمين” للكاتب الفلسطيني عامر أَنور سُلطان، حيث تشابهت وتشابكت الأمور في شرح مقولة هرتسل وزانجويل وتكذيب بدعة أرضٍ بلا شعبٍ لشعبٍ بلا أرض وتجنيد الرَّأي العام من أجل نُصرة قضيَّة شعبي وقضيَّة بلادي..

في هذا السِّياق لا يسعني إلا أَن أَشكرَ زميلي على مقعد الدِّراسة ورفيقي في الجبهة الدِّيمقراطيَّة للسَّلام والمساواة الأستاذ والمحامي والرَّفيق فؤاد مفيد نقَّارة، صاحب المشروع الوطنيِّ والثقافيِّ والتَّثقيفيِّ بامتياز على إهدائي هاتين الرِّوايتين..

تبريكاتي القلبيَّة العطرة للكاتب الفلسطينيِّ عامر أنور سُلطان، ابن خليل الرحمن، بصدور ثمرة قلمه “قِلادَةُ ياسَمين”، التي وصلت إلى القائمةِ الطَّويلةِ لجائزة غسَّان كنفاني للرِّواية العربية عام ألفين وأربعٍ وعشرين، بدورتها الثَّالثة، والتي تُنظِّمها وزارة الثَّقافة الفلسطينيَّة..

وفازت بجائزةِ أَفضَل روايةٍ عن القُدسِ في مهرجان زهرة المدائن، للعام أَلفين وأَربعة وعشرين، وأُهدي الكاتب العزيز عامر أَنور سُلطان، هذه الأبيات:

الشَّهد في عنب الخليل وعيون ماء سلسبيل

هي إرثُ جيلٍ بعد جيل وكفاحُ تاريخٍ طويل

جِنان جِنان بعمر الزمان

وما للدَّخيل بها من مكان

هذا وقد صدر للكاتب خمسُ روايات “نبوءة الصَّحراء”، “ظِلال

عاشقة”، “وادي الغيم”، “زمن القناطر” و”قِلادَةُ ياسَمين”..

أَعَزُّ مَكَانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سَابِحٍ وَخَيْرُ جَلِيسٍ في الزَّمانِ كِتابُ..

ملحوظة أولى: صدر هذا الكتاب، عام ألفين وأربعة وعشرين، عن الاتِّحاد العام للكتَّاب والأدباء الفلسطينيِّين، رام الله، فلسطين، من الحجم المتوسِّط، في مائتين وأربعين صفحة..

لوحة الغلاف للفنَّان الفلسطينيِّ سليمان منصور، والإخراج الفنِّي للفنَّانة سناء صبَّاح..

ملحوظة ثانية: مقام النَّبيِّ موسى يبعُدُ عن القُدس عشرين كيلومترًا شرقًا، وقد بناه النَّاصر صلاح الدِّين الأيُّوبيِّ ورمَّمه بعدها الظَّاهر بيبرس ومن بعده عبد الله باشا وغيرهم. أَمَّا في العام أَلفٍ وتسعمائة وعشرين، كانت المسيرةُ مُميَّزة، حيث أَخذت طابعًا سياسيًّا مناهضًا للإستعمار البريطانيِّ، وللحركة الصَّهيونيَّة، وهجرات اليهود إلى بلادي، حيث شهدت المسيرة صدامات ومواجهات بين عصابات صهيون والمستعمر البريطانيِّ من جهة، وأهل بيت المقدس والخليل والجوار من جهة أُخرى، راح ضحيَّتُها عددًا من القتلى والجرحى من الطَّرفين..

 

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

د. خالد تركي: نافذتي تُطلُّ على رواية “إِيفانوف في إِسرائيل”

د. خالد تركي نافذتي تُطلُّ على رواية “إِيفانوف في إِسرائيل” شاهدٌ على النَّكبة     …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *