تذكرتان إلى صفورية- النكبة، التشتت والهوية. د. رياض كامل.

 

رياض كامل

مقدمة

ليس القارئ بحاجة إلى الكثير من الجهد والتفكير ليرى أن الرواية العربية الفلسطينية، التي تتناول موضوع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، تنبثق أحداثها وتُستمَدّ من نكبة عام 1948، وأن سبعة عقود ونيفا غير كافية لمحو آثارها وأبعادها على حياة الفلسطيني حيثما تواجد. وما أحداث المواجهات، على اختلافها: فكرية وسياسية وعسكرية، سوى محصلة هذه النكبة. وكل من يرى أنّ هذا الصراع هو صراع عسكريّ إنما يأخذه إلى السطح لا إلى العمق، لأنه في أساسه هو خلاف بين فكرين متناحرين وروايتين متضادتين. وأي مواجهة أخرى هي نابعة من هذا التضاد. هذا برأيي، ما تتغيا أن تقوله رواية “تذكرتان إلى صفورية” (2017) للروائي المغترب سليم البيك.

تسعى هذه الرواية إلى طرح عدة قضايا يتواجه معها الفلسطينيّ المشتّت الذي لم يجرّب النكبة مباشرة، ولم يحمل أمتعته على ظهره، ولم يترك وطنه وبيته وجيرته وحقله وأشجاره. هي رواية الجيل الثالث، ممثَّلا بالشخصية المركزية للرواية، الذي يواجه متاعب نفسية تلاحقه حيثما تنقّل، سواء كان ذلك في قطر عربي، أو في بلد أوروبي؛ رواية تعالج رحلة بحث الفلسطيني، الذي لا يعيش فوق تراب وطنه، عن هوية يقتنع بها هو أولا، ويُقنع بها الآخرين ثانيا.

عصب الرواية

تحكي الرواية قصة شاب فلسطيني في الثلاثينيات من عمره، يدعى يوسف، يعيش متنقّلا بين دبي، مكان ولادته وعمله، وبين مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في سوريا، حيث ولد أبواه، وحيث تعيش العائلة التي هُجِّرت من فلسطين عام النكبة. يُطرد يوسف من عمله في دبي إثر خلاف مع مُشغِّله، فيعود إلى المخيم لكنه يضطرّ للهرب منه مع بداية الأحداث في سوريا نتيجة معارضته للنظام هناك ليصل، بعد رحلة مضنية، إلى مدينة تولوز الفرنسية. تساعده في التأقلم هناك شهادة جامعية في اللغة الفرنسية يحملها من جامعة دمشق.

يسعى هناك للحصول على الجنسية الفرنسية وعلى جواز سفر يتيح له الوصول إلى “فلسطين” كي يتمكن من زيارة بلد الآباء والأجداد ولقاء من بقي فيها من أقرباء. يتعرّف في مكان إقامته إلى فتاة فرنسية تدعى ليا، التي تصبح صديقة وحبيبة. تقدّم له هذه الفرنسية الدعم المعنوي والتشجيع الدائم للحصول على جواز السفر الفرنسي، وتحقيق أمنيته بزيارة قرية جدِّه، صفورية، التي هُجِّر أهلها عام النكبة (1948)، وإكمال كتابة روايته حول تجربته الحياتية الصعبة. تقترح عليه ليا أن تكون البداية من لحظة وصوله إلى المطار قبل سنة، متأخرا نصف ساعة عن موعد إقلاع الطائرة إلى مطار “بن غوريون” في تل أبيب، مما حال دون تمكُّنه من السفر، وأن يعود بالأحداث إلى جذور قضيته، وتشرّد أجداده عام النكبة، وخسارة الوطن، وتشتّت العائلة، وتشتّته هو أيضا، ما سبّب له كل هذا التعقيد والبلبلة في تحديد مكونات هويته. ينجح أخيرا مع صديقته الفرنسية في حجز تذكرتين، ويصلان المطار قبل الموعد كي لا تتكرر التجربة القاسية قبل سنة، فيجلس في الصالة فيما عقله وقلبه منشغلان فيما سيرى وفيمن سيقابل هناك في بلاد جدّه الصفوريّ.

المكان والمواطنة والتشيؤ

يُحدِّد مكانُ الولادة جنسية المولود، ويؤهله لنيل كامل حقوق المواطنة، والحصول على جواز سفر يحمله صاحبه ليتيح له التجوال في بقاع الأرض الواسعة. أما ولادة الفلسطيني في أي قطر عربي فإنها لا تعطيه هذا الحق أبدا، وبالتالي فإنه يبقى بدون جواز سفر من ناحية، ومحروما من كثير من الحقوق المدنية اليومية، من ناحية أخرى. يفرض هذا الواقع قيودا ترافق الفلسطيني من جيل لجيل، فتحدّ من تحرّكه، وتضيّق عليه سبل العمل والعيش الكريم، ما يجعل الفلسطيني يتشبّث أكثر بانتمائه إلى شعبه، ويزيده قناعة أن النكبة هي المسبب الأول لهذا الضيم، ولهذه “الشنططة”، حسب تعبير يوسف، فيمنّي نفسه بالعودة إلى بلد الآباء والأجداد والتخلّص من هذا الواقع الأليم.

يبني سليم البيك روايته اعتمادا على هذا الواقع، وعلى هذه الحالة المتفرّدة التي تميّز الفلسطيني دون غيره. ويكشف عما يجول في خاطر أبناء الجيل الثالث من مشاعر وأمان وتخبّطات، ويبيّن أسباب انتمائهم إلى مسقط رأس الجد، لا مسقط رأسهم هم.

من الطبيعي أن ينتمي الفرد إلى مكان ولادته ومسقط رأسه، وإلى المكان الذي يعيش فيه وينمو فيه. لكن الظروف الخاصة تدفع الفلسطيني إلى الانتماء إلى فلسطين التي لم يولد فيها، وإلى توريث هذا الشعور وهذا الانتماء من جيل لجيل؛ فلا هو ينتمي إلى البلد العربي الذي ولد فيه، ولا إلى البلد الغربي الذي يوفّر له حق المواطنة الكاملة. إنّ ما ينقصه أكبر من وريقات يحملها في جيبه تحدّد جنسيته، فما ينقصه هو الشعور بالانتماء إلى المكان ومَن عليه، شأنه شأن أي إنسان له أرض ووطن وبيت وعائلة. هذا ما كانت عليه حالة يوسف، وهو الذي لا يتوقف عن حوار ذاته قبل أن يحاور الآخر، حول حقيقة هويته، التي يجهد في ترميمها إثر كل صدمة يتعرض لها.

يدرك يوسف، الشاب الفلسطيني، وهو المشتّت والمشرّد، حقيقة مأساة فقدان الوطن/ المكان، بكل ما يحمله ذلك من معنى، ويجهد في تفسير انتمائه للآخرين. لذلك حين يُسأل عن جنسيته فإنه يجيب دون تردد أنّه من فلسطين التي لم تكن مسقط رأسه ولا مسقط رأس والده المولود في مخيم اليرموك في سوريا، بعد أن هُجِّرت العائلة من قرية صفورية في فلسطين. لا يشعر يوسف بأي انتماء إلى دبي، التي ولد فيها وعاش فيها نصف عمره، ويرى نفسه أقرب إلى سكان المخيمات الفلسطينية، وإلى مخيم اليرموك، بشكل خاص، “يوسف الذي ولد وكبر في دبي لم يتعرّف على مخيم اليرموك إلا من خلال الزيارات الصيفية لأهله”. (ص114)

تتواجه الشخصية المركزية في الرواية مع هذا الواقع حيثما حلت، سواء كان ذلك داخل الوطن العربي أو خارجه، لأن ذلك يستدعي سؤالا متكررا: من أي جزء من فلسطين أنت؟ وكأنّ تحديد الهويّة من خلال كلمة “فلسطين” لم تعد تكفي لتحديد الانتماء المكاني، فقد سُلب المكان وغُيِّب عن أصحابه، وبات ذلك قانونا دوليا، يفرض على الفلسطيني الاعتراف به قسرا، لا اقتناعا حتى يتمكن من الحصول على الماء والطعام والهواء لا أكثر، وكأن هناك مسعى لتحويله إلى آلة تتحرك بمشيئة الآخرين دون مراعاة الجانب الذهني والعقلي والعاطفي. هو التشيئ الذي يحرم المرءَ حقَّه في الحياة كإنسان له مشاعر وله أحاسيس، وله ماض وحاضر ومستقبل.

يوسف هو الفلسطيني المشرّد، لا المشتّت فقط، لم يشعر بالانتماء إلى أي مكان عاش فيه؛ دبي التي ولد فيها لا تشبهه في شيء، هي مجرد مكان للعمل، يجمع، وفق رؤية أهلها، ثروة ثم يعود إلى سوريا “بلده” ليبني هناك بيتا. والإثبات على ذلك أنه كان سهلا على المُشغِّل أن يُبعده عن مكان عمله لمجرد خلاف بسيط. أما المخيم فهو أكثر ألفة إليه رغم أنه لا يشعر بالانتماء إليه هو أيضا، والسوريون يعتبرونه “ضيفا”، “والضيف يبقى ضيفا” (ص116)، وهو هنا ضيف على أهله الضيوف في سوريا، وهو غريب عن أهل المخيم؛ غريب بين غرباء، وهو بالنسبة لفلسطينيي ال48 من الخارج لا من الداخل، باختصار هو من “الآخرين” حيثما تواجد.

يصل يوسف، أخيرا، إلى فرنسا وقد تخطّى الثلاثين من عمره. هنا له صديقة فرنسية يصارحها بكل هواجسه وهمومه ويمارس معها الجنس، دون أن يسائله أحد في ذلك، ويحمل جواز سفر، ويتمتّع بحقوق مثل بقية المواطنين، وهو ما لم يحصل عليه في البلدين العربيين، لكن هذه البلاد ليست بلاده، ولن يكون واحدا من أهلها، وسيظل الجميع يرون ملامحه الشرقية التي تشي بأنه مهجَّر وليس من أصول فرنسية. لم يتنكّر يوسف لفرنسا ودورها في تمكينه من حقه في رؤية فلسطين، ولا من ممارسة حقه في الحياة بصورة طبيعية، لم يُلاحق لأسباب فكرية أو سياسية، ولم يعترض أحد، هنا، على أفكاره الاجتماعية، حتى ليبدو شابا يعيش كما يحلو له أن يعيش، ويلبس كما يحلو له أن يلبس، ويمارس الجنس مع صديقة فرنسية، يأكل مثل الفرنسيين، ويشرب مثلهم ويتعطر كما يتعطرون، بل ويكثر من الحديث عن روائح تنتشر هنا وهناك، وعن زهور تبثّ رائحتها الفرنسية دون أن ينصهر في الفكر الفرنسي، ودون أن يتبنّى أي رأي يدعم تيارا سياسيا فرنسيا؛ فما يشغله هو هاجس الهوية الفلسطينية، التي كانت النكبة، رغم أنه لم يجرّبها على الصعيد الشخصي، المسببَ الرئيسيَّ لهذا الضياع، وهذه البلبلة وهذا التشتت.

هذا الشعور بالاغتراب عن المكان، وصعوبة تحقيق هوية حقيقية على أرض الواقع، يدفع يوسف الفلسطيني، ابن الجيل الثالث إلى محاربة كل ما يقف عائقا أمام تحقيق ذاته، رافضا التشيؤ والتنازل عن الهوية، مهما كان الواقع صعبا، فإن كان آدم قد طرد من الجنة، فإن الفلسطيني، كما يُستشف من مواقف يوسف، قد طرد من فردوسه المفقود، لكن هذا غير ذاك؛ فطرد آدم ناتج عن اقترافه خطيئة دفعه إليها إبليس، وهي ما لم يقترف مثلها الفلسطيني، لا في السابق ولا في الحاضر. وما التذكرة إلى صفورية إلا الخطوة الأولى تتلوها خطوات أخرى. وأما ما قدمته فرنسا من مغريات، وهي كثيرة، فلم تمنعه من تحقيق ذاته ورؤية ما يمور في داخله من مشاعر أقوى بكثير من تلك المغريات.

المكان والهوية الملتبسة

إن أحد أهم المواضيع التي تناولتها الرواية العربية الفلسطينية كان ولا يزال موضوع الهوية، فقد عمل الآخر على محاربتها وتزييفها وتشويهها، متناسيا أن فوق هذه الأرض، ومنذ قديم الزمان، يعيش شعب عربي له جذوره وتاريخه وماضيه، وأن هذه البلاد، كما كل البلدان العربية، تناوبت على حكمها شعوب متعددة، وأنها كانت تحت الحكم العثماني مدة قرون أربعة، تلاها استعمار أوروبي. ولما تأسست الدول العربية الحديثة وتحرّرت من نير الاستعمار، بقي الشعب العربي الفلسطيني، وحده، بدون دولة، فيما قامت دولة إسرائيل على جزء كبير من هذه الأرض (1948)، وتبع جزء منها (قطاع غزة) إلى سلطة مصر وقسم آخر (الضفة الغربية) إلى سلطة الأردن، حتى كانت النكسة والهزيمة العربية (1967) التي مكّنت إسرائيل من بسط نفوذها على كامل الأرض.

تتناول رواية “تذكرتان إلى صفورية” موضوع الهوية كثيمة مركزية لها، وتتوقف عند الجيل الفلسطيني الثالث، كما ذكرنا، لتضعه في مواجهة مع الواقع، ومع حقيقة هذا التشتّت والتشقّق الذي يصل تأثيره بعيدا، ويمتد زمنيا حتى أجيال ما بعد النكبة في بحثهم عن الهوية. لم يعش يوسف يوما في فلسطين كما عاش جدّه، ولم يدخل في تجربة الشعور بالانتماء إلى أي قرية أو مدينة في فلسطين لأنه لم يعش فيها ولو يوما واحدا. فالوطن، كما هو معتاد، هو المكان الذي تولد فيه، وتكبر فيه، وتبني فوقه بيتا وعائلة، وتنطلق منه حاملا هويته وجواز سفره. لقد ولد يوسف في دبي، ووالداه في المخيمات، وجدّه في صفورية التي في فلسطين، وتنقّل هو بين دبي ومخيم اليرموك في سوريا، ويدخل الآن في تجربة جديدة تنضاف إلى مجمل تجربة الفلسطيني؛ العيش في دولة أوروبية. يزيده ذلك شعورا بالاغتراب، ما يدفعه للبحث عن صيغة يقبلها هو ويدرك مفهومها بعض من يسأله عن أصوله. إذ حين يرى زملاؤه في العمل هذا “السمار” يطرحون عليه سؤالا بصيغتين “من أي أصل أنت”، أو “من أين أنت”. كان عليه، كي يجيب، أن يعطي مقدمة مطوّلة قد لا تعني الكثيرين من زملائه الذين لا يفقهون الفرق بين أن يكون فلسطينيا من منطقة ال 48، أو من فلسطينيي الضفة أو من قطاع غزة، أو من فلسطينيي الشتات.

إن المكان أحد مركبات الهوية الرئيسية، لكن قسما كبيرا من الفلسطينيين فُرض عليهم أن يعيشوا تجربة المكان من بعيد، من خارجه، عبر توريث الذاكرة من جيل لجيل. هي تجربة قاسية ولئيمة يذوق مرَّها أبناء الشعب الفلسطيني. والغريب في الأمر أن الجيل الثالث الذي لم ير فلسطين، لا من قريب ولا من بعيد يصرّ على حمل الهوية الفلسطينية فكرا وانتماء، وإن كان محروما من المكان. ولكي يزور فلسطين، مجرد زيارة، عليه أن “ينجح” في الحصول على جواز سفر البلد الأوروبي الذي يعيش فيه. لقد شعر يوسف أنه بات أقرب إلى فلسطين حين نجح في الحصول على جواز سفر فرنسي، وبالتالي بات ممكنا القيام بزيارة إليها ورؤية قرية صفورية التي بقرب مدينة الناصرة، وملامسة المكان الذي ولد فيه جده.

حين نحاور أية رواية فلسطينية تستمد أحداثها من النكبة يجدر بنا توسيع الحديث عن علاقة الفلسطيني بالمكان وعن تأثيره فيه وتأثّره به، وعن صلته بأشجاره وأحجاره، وطيوره وحيواناته، والأبنية وساكنيها، وعن الأهل والجيرة، وعن كل ما يتعلق بالحياة اليومية وعما كان يمنحه للمرء من أمن وأمان. لم يعش يوسف أي تجربة من هذه التجارب؛ لم يولد في فلسطين، ولم يسافر في أنحاء الوطن للتعرف عليه، ولم يغرس شجرة، ولم يبن بيتا، وبالتالي لم يدخل في تجربة النكبة سنة 1948، ولم يترك بيته وأهله وجيرته وأترابه، لذلك لا نرى وصفا دقيقا للمكان بكل مركباته، كما هو مألوف في السرديّة الفلسطينية. ومع ذلك يجاهد يوسف كي يحظى بزيارة البلدة التي ولد فيها جدّه واللقاء بأقاربه هناك، فنراه يكثر من الحديث عن نكبته وعن التشتّت والتشرّد، وعن لهفته إلى فلسطين، مؤكدا أنّ انفصاله عنها كان انفصاليا مكانيا قسريا: “كان يوسف مدركا أن التشقّق، أو التشتّت، في حياته وحياة عائلته، من جده إلى أبيه، لم يكن زمانيا ومقتصرا على المرور بين الأجيال فحسب، بل كان مكانيا، محصورا في يوسف نفسه، ووحده دون أبيه وجده. وقدومه إلى فرنسا أضاف إلى هذا التشتت المكاني مرحلة أخرى، أو مكانا يضاف إلى أمكنة شتاته الشخصي، فكان مدركا تماما أنه لم يكن فلسطينيا إلا بالمعنى القلق، إلا مرورا، كان فلسطينيا دون انتماء مطْمَئن ومستقر لمكان فلسطيني”. (ص 112)

لم يتمكن “التشتت” و”التشقق” و”التهجير” و”الغربة” من حرمانه من الشعور بانتمائه إلى فلسطين، ولم يستطع كل ذلك أن يسلب منه شغفه في تحقيق اللقاء بها. فالمرء، كما يستشفّ القارئ من تنامي الأحداث، ينتمي إلى أب وأم وجدّ وجدة أيضا، وإلى عائلة هي جذوره التي لا يمكنه التنازل عنها مهما “تفلسف” محاولا محاربة الانتماءات “العشائرية”. فالعائلة التي أتت بك إلى هذا الكون هي التي تورثك الذاكرة، وهذه الذاكرة ترسخ المكان. والمكان الذي ولد فيه الجد هو مكانك.

إن طرد الفلسطيني، وفق رؤية يوسف/ أو سليم البيك، وولادة الأولاد والأحفاد خارج الوطن لا يعني بأي حال من الأحوال القبول بمصادرة الوطن والتنازل عن الحق التاريخي فيه، بل ربما كان طرد الجد منه هو دافع إلى تشبّث الأحفاد به، وإلى عدم تنازلهم عن “حق العودة” الذي تسعى الرواية الفلسطينية إلى تجذيره. لم ينتم يوسف إلى أي مدينة أو أي بلدة، أو أي قارة، ولم يكن سهلا عليه أن يحدّد هويته تجاه هذه الأمكنة التي عاش فيها، لكنّ شيئا واحدا لازمه هو العودة إلى تلك القرية التي ولد فيها جده، بجانب مدينة الناصرة. هذا هو المكان الوحيد الذي يشعر أنه يحب أن يعود إليه، لكن كلمة “عودة” هنا، بحد ذاتها كلمة ملتبسة، فهو لم يولد في هذا المكان ولم يعش فيه ولو يوما واحدا، ومع ذلك فهو يستعمل الفعل “يعود”، مؤمنا أنه لولا النكبة لولد في نفس المكان الذي ولد فيه جده، لكن من سبّب النكبةَ حرمه من حق الولادة فوق أرض الأجداد وحرمه من حق المواطنة كصاحب بيت لا كضيف.

صورة المرأة الغربية وإشكالية الجنس

يسعى الراوي، الذي يأخذ دورا محوريا يعادل، وقد يفوق دور الشخصية المركزية، إلى طرح “نجاحات” و”إخفاقات” يوسف في كسب ودّ سيدة هنا وأخرى هناك، في حين أن “زير” النساء هذا مقتنع تماما أنه قادر أن يسحب أي سيدة يشتهيها من يدها إلى فراشه وإلى غرفته. وهو، كما تكشفه المونولوجات المتكررة في الرواية، يرى السيدة مجرد أنثى تجذبه جنسيا بردفيها وساقيها وصدرها واكتناز شفتيها. لم يحدّثنا يوسف عن مواصفات المرأة التي تجذبه بأفكارها والتي يتمنى أن تكون رفيقته، أو صديقته أو عشيقته، خارج إطار شكلها الخارجي الذي يقتصر على الجاذبية الجنسية.

تأخذنا “تذكرتان إلى صفورية” إلى تلك الروايات التي تناولت علاقة الشرق بالغرب، وهو موضوع تناوله الكثير من الدارسين من جوانب متعددة، وقد لفت نظرهم، وبحق، أن أحد المواضيع التي شغلت الروائيين الأوائل الذين تناولوا هذه العلاقة كان موضوع المرأة الغربية ونظرة الرجل الشرقي إليها، ونظرة المرأة الغربية تجاه الرجل الشرقي، وهو موضوع يطول الحديث فيه. تذكرنا شخصية يوسف، رغم الاختلاف، بشخصية مصطفى سعيد، بطل رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح الذي عمل على تفريغ نقمته على المستعمر من خلال ممارسة الجنس مع سيدات إنجليزيات، واجتذابهن إلى ساحته و”مصيدته” المدججة بروائح الشرق السوداني وبعض الزينة والأثاث الشرقي، ثم تركهنّ وكآبتهن التي تودي بهن إلى الاختفاء والانتحار. ولما لم ينجح في التغلب على زوجته جين موريس التي حاولت أن تذلّه وتهينه قام بقتلها. فأين التشابه والاختلاف بينهما؟

لا ندعي أن شخصية يوسف نسخة طبق الأصل عن مصطفى سعيد، لكن الجنس والمرأة يأخذان دورا مهما في حياة كل منهما، ولدى الاثنين القناعة بقدرتهما على جذب المرأة الأوروبية إلى سريريهما. وكلاهما مغتربان؛ مصطفى سعيد يعيش في لندن ويجيد اللغة الإنجليزية، والثاني في تولوز ويجيد اللغة الفرنسية. وهما مثقفان يتابعان أعمال المسرح والسينما، وكل منهما عانى من الاستعمار الغربي لبلديهما وللبلاد العربية عامة. ورغم أنهما يعيشان في بلد أجنبي ساهم في تحقيق ذاتيهما بشكل أفضل مما لو كانا يعيشان في مجتمعهما العربي إلا أنه في أعماق كل منهما انتماء إلى البلد وإلى الجذور، وحقد دفين على المستعمر الغربي، يعبّر كل منهما عنه بشكل مختلف عن الآخر.

مصطفى سعيد في “موسم الهجرة إلى الشمال” صياد نساء، يعتبر غرفته المهيأة لاستقبالهنّ “مقبرة” يسعى من خلالها إلى تدميرهن، والانتقام منهن.. كما يسعى يوسف، هو أيضا، إلى تحويل غرفته إلى مصيدة نسائية، لكن دون أن يبذل ذاك المجهود الذي يبذله مصطفى سعيد في نشر روائح الند والصندل وتأثيث غرفته بالتحف الشرقية. إن أكثر ما يفعله يوسف هو البحث عن غرفة أوسع من غرفته، التي أقام فيها بعد وصوله مدينة تولوز، تلائم ممارسة الجنس في وضعيات مختلفة، دون أن يلمس القارئ لديه أية مشاعر وجدانية أو غرامية تجاه أولئك النساء اللواتي لم يعجب إلا بأردافهن وحركات أجسامهنّ المغرية، فتقتصر مشاعره على شغفه بممارسة الجنس معهن لا أكثر، بل تفلت منه الكثير من الشتائم الشرقية المألوفة التي تكشف فراغ قلبه من العاطفة العربية الشرقية، لكنه، كما ذكرنا، لم يفكر بتحويلهن إلى ضحايا ولا يسعى إلى إذلالهن في الفراش، وإن ظهر بمظهر الرجل الذي تبادره الفرنسية، ليا، إلى ممارسة الجنس معه أكثر مما يسعى هو إليها، ولا يبذل أي جهد يكشف عن عواطف خاصة تجاهها، حتى ليبدو أن ما يشغله أكثر هو البحث عن الهوية التي يفتقد إليها نتيجة فقدانه المكان، دون أن يخفي، عبر المونولوجات المتكررة والفلاش باك والذكريات، أنها جذبته في البداية جنسيا.

يحتار القارئ وهو يقلّب صفحات الرواية في معرفة دلالة هذا الانجذاب للمرأة وللجنس، خاصة وأن هذا الاهتمام يتّسع، بشكل مطّرد، كلما قلَّب الصفحات أكثر، حتى لتأخذ المرأة حيّزا، بعد منتصف الرواية، يفوق حيّز القضية المركزية التي تستحوذ على فكر القارئ وعلى فكر الراوي والشخصية المركزية، معا، أكثر من أي موضوع آخر، بحيث يتابع القارئ في تلقي الأحداث ومحاورة النص أثناء القراءة لمعرفة ما ستؤول إليه القضية المركزية التي “سوّقها” الروائي للمتلقي، وهي قضية الهوية وعلاقتها بالمكان المسلوب. وإذا الهواجس الجنسية، بطرحها المباشر، دون علاقة بالضياع والتشتّت وفقدان الأرض والوطن، تستفرد بحيّز واسع من الصفحات، حتى ليبدو أن الموضوع الرئيسي كاد أن يَغيب أو يُغيَّب. وتبقى “ليا” صديقته هي الضوء المتوهج في الجانب الإنساني الذي تمثله الفتاة الأجنبية التي تنتصر لقضية الفلسطيني الضائع الذي يحلم بالعودة وحق العودة.

فإن كان يوسف يناضل، وهو فعلا يناضل، من أجل حقه وحقوق عموم شعبه في العودة إلى بلاد الآباء والأجداد، عبر إيمانه العميق بضرورة تحقيق طموحات شعبه، فإنه مثل بعض المثقفين والمنظرين الفلسطينيين الذين حرموا من العيش فوق تراب الوطن والذين عملوا، من خلال بعض المؤسسات، على تجنيد الرأي العام الغربي والعربي في سبيل دعم قضيتهم الكبرى، ومنهم من التقى بفتاة أجنبية شاركته في خدمة قضيته، كما هو الأمر مع غسان كنفاني، على سبيل المثال مع زوجته الدنماركية، آني هوفر، التي تجندت من أجل خدمة القضية الفلسطينية فتعرف بها وتزوّجها.

بالرغم من إكثار الراوي من ذكر ما يدور في فكر يوسف حول المرأة والجنس، وما أكّده يوسف من خلال المونولوجات، إلا أن القارئ ينبّه إلى ما يلي: لم تكشف شخصية يوسف الفلسطينية حقدا تجاه المرأة الغربية، ولم يُظهر، من ناحية أخرى أية مشاعر تقديرية تجاه ما قدمته له هذه المرأة ممثلة بالصديقة ليا. فبدت شخصية يوسف، ضبابية في هذا المجال بالذات. ولعل العنوان “تذكرتان إلى صفورية” كافية لتشي بدورها، وكأنّ فشله في الركوب بالطائرة قبل سنة كان بسبب عدم حجزه إلا تذكرة واحدة له وحده، وما كانت رحلته لتتحقق إلا برفقتها ودعمها له، وهي الأوروبية الفرنسية المؤمنة بقضيته.

سيرة روائية؟؟

هناك تقارب كبير بين سيرة حياة المؤلف سليم البيك وحياة يوسف، الشخصية المركزية، لكن الروائي يصرّ على توظيف كل الوسائل والتقنيات ليذهب بالأحداث باتجاه السرد الروائي، فيلجأ إلى ضمير الغائب لإتاحة المجال للتنقّل بحرية أكبر بين الضمائر، وتوظيف شتى أنواع الحوارات، وبالتالي تسليط الضوء على الداخل والخارج ليكتمل بناء الشخصية، وتتضح صورتها في عين الآخرين أيضا، لا في عين ذاتها فقط، فيبرز تيار الوعي الذي يتيح للسارد أن يتنقّل بين الأزمنة والأمكنة، وأن يبتعد ويقترب وفق ما يتلاءم مع الأحداث، فتنساب الأفكار ويسترسل السارد في حوارات داخلية تكشف ما يمور في النفس، وتسلط الضوء على حدثٍ ما، أو على ما ينتاب الشخصية من وساوس وأفكار ومشاغل وهموم وصراعات داخلية.

يلاحظ القارئ أن السارد يطنب في الوصف فيدخل في أدق التفاصيل لمشهد ما حتى ليبدو للمتلقي أنّ السارد قد فقد الخيوط التي تربط بين الأحداث وبين الأزمنة، لكنه يعود بسلاسة إلى موضوعه الرئيسي فيتكشف للقارئ أن الإطناب والاسترسال كانا بهدف توسيع رقعتي المكان والزمان، وانفلاش الأحداث على حيز أوسع من مجرد أفكار تتعارك في داخل الشخصية، فتنسجم كلها في رسم صورة المغترب الفلسطيني الذي يبحث عن هويته ومركباتها الفكرية.

يأخذ الراوي المتلقيَ إلى عالمه: همومه، أفكاره، ورؤيته لقضايا يراها مصيرية في حياته، وفي حياة الشعب العربي الفلسطيني، موظفا شخصية الشاب يوسف الباحث عن ذاته، وما يوسف إلا ابن من أبناء هذا الشعب يعاني من صراعات فكرية، أهمها البحث عن هوية، فيصطدم بواقع معقّد. هذه الهموم والأفكار تلازم يوسف المنشغل بحوار دائم مع ذاته ومع الآخرين، الذين لا يلتقي القارئ بهم إلا من خلال يوسف وحواراته الذاتية. إن أسلوب تيار الوعي هو الأكثر ملاءمة لتصوير هذا الصراع. أما الآخر الوحيد الذي يتعرف عليه القارئ عن كثب فهو الصديقة الفرنسية، ليا، التي تحثّه على الكتابة عن تجربته بكل تفاصيلها. وهي الوحيدة التي تعرف كل تفاصيل حياته منذ تهجير الجد وحتى محاولة الحفيد يوسف السفر إلى البلد التي ولد فيها الجد، وهي الوحيدة التي تبدو للقارئ أنها مدركة لكل تخبّطات يوسف وأفكاره وهواجسه وأحلامه، يجندها الراوي لتوسيع رقعة التخييل والإيهام بالواقع.

رغم التشابه بين حياة يوسف، كما تطرحها الرواية، وحياة سليم البيك إلا أنني أرجح كفة التخييل على التوثيق، ولذلك حين نعود إلى عنوان هذه الفقرة ،”سيرة روائية؟”، فإنني لا أرى أية غرابة في دمج ما هو ذاتي مع هو تخييلي، وهذا شأن كثير من الروايات العربية والعالمية التي تأخذ بعض ملامح كاتبها، بدرجات متفاوتة لتوظيفها في السرد الروائي، لكنّ الشخصيات تمد لسانها للروائي أثناء السرد، كما قال حنا مينة عن بعض شخصياته حين تفلت من قيوده لتنطلق بحرية بما يتلاءم مع حالة السرد الروائي التخييلي العام، وإلا كيف يمكن للمتلقي أن يتعامل مع الأوصاف الدقيقة للأمكنة والشخصيات، وللتفاصيل الدقيقة لبعض المشاهد، أو تلك الإشارات إلى أزمنة محددة بعينها سوى أنها الحيلة الفنية التي يحسن الروائيون توظيفها؛ حيلة “الإيهام بالواقع”؟

قلنا إن هناك تشابها كبيرا بين سيرة الروائي سليم البيك وحياة يوسف، ف”الشنططة” التي تكرّر ذكرها في الرواية نتيجة النكبة هي ذاتها التي تحرّك الأحداث المركزية للرواية، وهي ذاتها التي عاشتها عائلة سليم البيك. يعلم يوسف جيدا أنّ ما يمر به من مشاكل ومصاعب هو من نتائج النكبة، وتزداد قناعته بذلك كلما توسعت دوائر تجاربه الحياتية، وهي كثيرة؛ في المخيم وفي دولة الإمارات وفي فرنسا. وهو يرى أن الفلسطيني “يتشنطط” مرة كل ثلاثين سنة؛ الأولى كانت سنة النكبة حين انتقل الجَدّ وعائلته من فلسطين إلى مخيم اليرموك في سوريا، والثانية كانت حين انتقل الأبناء من سوريا إلى دول الخليج في ثمانينيات القرن الماضي، أما الثالثة فهي انتقال الأحفاد، بفعل الأحداث في سوريا وفي الدول العربية، إلى دولة أوروبية. (انظر: ص108) وبالتالي فإن العائلة تتشتّت وتتفرّق؛ قسم يبقى في الوطن الأم يعيش تحت حكم إسرائيل، وقسم يعيش في دولة عربية، والآخر يعيش في دولة أوروبية. أما بالنسبة ليوسف، الشخصية المركزية، فإن قسما يبقى في الوطن وآخر في سوريا، والثالث في الإمارات، فيما يقيم هو في فرنسا. (ص109)

رغم التشابه بين سليم ويوسف! لكن التخييل هو الغالب، بالذات في عدم التزام السرد بالتطابق التام بين الشخصية والراوي والروائي التي حدّدها فيليب لوجون للسيرة الذاتية، وهناك حيّز واسع من الحرية للراوي في كشف سريرة الشخصية وأسرارها التي قد يتحرّج منها الروائي فيما لو كان مؤلّفه سيرة ذاتية. وربما الأهم من ذلك أن هذين النوعين: السيرة الذاتية والرواية يتداخلان ويأخذ الواحد من الآخر بعض مميزاته، وهو بحد ذاته موضوع شاسع، يهمنا في هذا السياق أن نشير إلى موقف المتلقي من سرد الأحداث؛ فقد غلب التخييل على ذهن المتلقي، وبات أفق التوقع لديه مفتوحا على عدة احتمالات أثناء عملية القراءة ولم ينتظر قراءة وثيقة تتطابق مع سيرة حياة المؤلف.

العنوان وحق العودة

لقد اختار الروائي عنوانا مباشرا يضعه في مواجهة القارئ، وإن أردنا التدقيق أكثر فهي جملة إخبارية تحمل رسالة صارمة من الشخصية المركزية تعني السفر إلى صفورية رغم كل العوائق والمشاكل والصعاب، ورغم كل الهواجس التي انتابت يوسف الفلسطيني حول مفهوم تلك الزيارة، بعد سبعين سنة من النكبة، وما تحمله من أبعاد وتعقيدات وإشكاليات تتعلق بمركبات الهوية. ستحط الطائرة عجلاتها في “مطار بن غوريون” الواقع في “مدينة تل أبيب” الواقعة في “دولة إسرائيل”. ما كانت هذه الزيارة لتتحقّق، كما ذكرنا، لولا حصول يوسف على جواز سفر فرنسي، أي جواز سفر غربي، والغربي في ذاكرة الفلسطيني، وفي ذاكرة العربي، هو المستعمر الذي قام بتقسيم الشرق العربي إلى دول وأقطار متفرقة تاركا الفلسطينيين دون دولة ودون وطن.

يطرد يوسف من هواجسه كل ما يتعلق بالواقع الصعب، ويذهب إلى حيث الهوية التي لا تضيع، حتى وإن “سلب الوطن”، لأن جواز السفر ليس إلا مجرد مجموعة من الأوراق تتيح لحاملها التنقل من مكان لآخر. أما الهوية فهي فعل انتماء داخلي يغور في النفس عميقا. يجهد يوسف في تبرير الزيارة إلى صفورية على أنها عودة إلى الجذور، وإلى العائلة، وإلى الأشجار التي غرسها الأجداد هناك. فبدت قرية صفورية، وفق هذا العنوان، وكأنها تحولت إلى دولة يمكن القيام بزيارتها، وبالأحرى العودة إليها، ولقاء أهلها الذين بقوا، وحتى الذين هُجّروا، فما اللقاء بالشجر والحجر إلا تثبيت لبقاء الوطن وغارسي أشجاره وحافظي عهده، حتى وإن تغيّرت ملامحه، فالتاريخ لا يمحى مهما طال الزمان، ما دامت هناك ذاكرة وما دام هناك من يحرسها.

لم تُمحَ صفورية من ذاكرة أهلها كلهم، سواء الذين يسكنون في منطقة ال48، أو أولئك الذين يسكنون في مخيمات اللاجئين، أو أولئك الذين يعيشون في أي دولة عربية أو غربية. لم يستطع الجد أن يعود إلى بلدته ولم يتمكن الأولاد من تحقيق أمنية الأب، فكان مشروع يوسف، الحفيد، نصف عودة أو ربع عودة، لكنها تفتح الباب لملامسة الوطن والسير فوق ترابه كبداية لمشروع العودة الذي رسمه غسان كنفاني في روايته “عائد إلى حيفا”، حيث قام سعيد س وزوجته صفية بزيارة البيت فتمخض عنها برنامج نضالي يكمله الأبناء تعويضا عما لم يفعله الآباء.

يدرك يوسف أن هذه العودة منقوصة، ولا تحقق إلا جزءا من طموحاته. لم يعد لوحده، بل مع “ليا” الأجنبية الفرنسية التي دعمت مشروعه، لذا يحق لها أن تكون جزءا من هذه العودة، وهي التي لم تطارده ولم تقيّد حريته في التعبير عن ذاته، ولم تمنعه من الانتماء الفكري والعاطفي إلى فلسطين، ولم تطرده من بلادها، ولم تبعده عن مكان عمله. فهل نجاح يوسف العربي الفلسطيني في تجنيد “ليا” الفرنسية يحمل دلالة ما؟

ليس بإمكان المتلقي أن ينفي ذلك أو يؤكده، ولكن الحقيقة التي لا مراء فيها أن هذه الزيارة، مهما تحمل من دلالات، لم تتحقق إلا بفضل الجواز الفرنسي، وبفضل الفرنسية “ليا”. وإن لم يتمكن جد سليم البيك، ممثلا بجد يوسف، من العودة فإنه نال شرف إهداء هذه الرواية: “إلى ذكرى جدي”.

إن الزيارة التي لم تتحقق إلا بفضل جواز السفر الفرنسي وبفضل الحبيبة الفرنسية ما هي إلا زيارة إلى فلسطين، حسب رأي يوسف، حتى وإن كانت التذكرة تحمل اسم مطار بن غوريون واسم تل أبيب بشكل بارز، سيزور الشجرات التي زرعها جده في قريته صفورية وسيزور من تبقى من أقارب في فلسطين، “وإسرائيل فقط على التذاكر والورق، وبن غوريون لافتة معلَّقة تزال في أي يوم”. (ص236) فهو، كما تعلن الرواية عبر هذا العنوان، عائد إلى صفورية، بكل ما تحمله من معان ورموز، لا إلى أي مكان آخر. فإن قام الاخر بتبديل اسمها وتحريفه فهي بالنسبة له ما زالت “صفورية” التي في فلسطين، يحفظها أهلها، الذين شُرّدوا، عن ظهر قلب وجذّروها في ذاكرة الأبناء والأحفاد.

لا نأتي بجديد حين نقول إن هذا العنوان الذي طرحه الروائي سليم البيك يتمحور حول موضوع “العودة” الذي طرحه كثير من الأدباء الفلسطينيين، وربما كانت رواية “عائد إلى حيفا” بكل ما تحمله من ألم ووجع وأسى هي الأكثر قربا من حيث أنها هي أيضا تمثل عودة منقوصة. لكن دور الروائي أن يزرع فكرة وينتظر أن تنمو وتنضج في يوم من الأيام.

خلاصة

“تذكرتان إلى صفورية” رواية الجيل الثالث للنكبة الفلسطينية، الباحث عن هويته خارج إطار الوطن، مما يستدعي فتح حوارات مع الذات على الصعيد الشخصي، ومع الذات الفلسطينية، ومع الذات العربية، ومع الاخر خارج العالم العربي. وهي تسعى، أيضا، مثل كثير من الروايات الفلسطينية. إلى تفنيد رواية الآخر اليهودي.

لا تبحث الرواية عن مبرّرات تعذر أو تسامح من كانوا السبب في هذا التشتت والتشرد والتشقّق. وتُحمّل كل الأطراف جريرة ما ارتُكب بحق الفلسطيني. فالعربي يعيش حياته العادية في دولته، راضيا أو غير راض عن نظام الحكم عنده، لكنّه في النهاية يعيش فوق تراب وطنه، فيما الفلسطيني ما زال يمارس حرفة التشتت و”الشنططة” والاغتراب ويتعرض للظلم والضيم من ذوي القربى. أما الأوروبي الذي حاوره روائيون عرب سابقون فإن سليم البيك يعيد هذا الحوار إلى العصر الراهن، لا ليتحدث عن فوارق الحضارتين الغربية والشرقية، ولا ليبين غلبة حضارة على أخرى، فالرواية غير معنية بطرح صراع الحضارتين، كموضوع رئيسي، كما فعل توفيق الحكيم في “عصفور من الشرق”، ولا كما فعل سهيل إدريس في “الحي اللاتيني”، أو ما قدمه يحيى حقي في “قنديل أم هاشم”، ولا حتى ما فعله الطيب صالح في “موسم الهجرة إلى الشمال”، رغم التشابه في بعض النواحي. ينطلق البيك من حالة فلسطينية مغايرة تظهر أن العربي الفلسطيني محروم من حقه بالعودة إلى الجذور، بعد سبعين عاما، إلى حيث ولد الآباء والأجداد، ويحمّل الآخرين في الشرق والغرب وزر جريرتهم بحق الفلسطيني.

لم تكن عودة يوسف، الشخصية المركزية، سوى عودة مؤقتة ناقصة، فيما عاد أبطال تلك الروايات في النهاية إلى قراهم ومدنهم ليتابعوا مسيرتهم من فوق تراب الوطن، كمواطنين يحملون جنسيةً وجوازَ سفر باللغة العربية، مُسجَّلا في الصفحة الأولى فيهما اسم بلادهم، لا اسم بلد غريب. أما الآخر اليهودي الذي يغيب عن خريطة الرواية وأحداثها المباشرة فإنه، في نهاية الأمر، هو المسبّب الأول والأخير لهذ ا التشرّد، ولكن هذا المغيَّب عن الأحداث قسرا وقصدا، لا يمكن تجاهله أو إخفاء دوره، لأنه موجود في كل حركة وفي كل فكرة يحملها يوسف بديلا عن خالقه الروائي سليم البيك.

لا يحاور سليم البيك كل هؤلاء ليبيّن لهم ما سببته له مواقفهم في الماضي، ولا ليبيِّن الغبن الذي لحق بالفلسطيني، وحسب، بل ليكشف عن هموم الحاضر وعثرات المستقبل التي يتواجه معها الفلسطيني، بعد سبعين سنة، هي هموم وعثرات سترافقه وستظلّ تؤرّقه، وهو الباحث عن هوية وعن أرض مسلوبتين.

أثار إدوارد سعيد في كتابه “خارج المكان” (2000) نقاشا فلسفيا ورؤيويا عميقا في بحثه عن الهوية، وفتح باب التفكير أمام كثير من الفلسطينيين، وربما غير الفلسطينيين، ممن يجهدون في البحث عن هوية خارج الوطن، بعد أن جرّبوا التشرّد والتشتّت والتهجير والرفض وعدم قبول الآخرين لهم، وانسداد أفق “العودة”. يعمل سليم البيك، في كتابه هذا، على إعادة طرح قضية الهوية اعتمادا على تجربته كفلسطيني، بشكل خاص، بعد أن خاض هو الآخر تجربة مضنية، وإن كانت أقصر من تجربة إدوارد سعيد. لا نقول ذلك من باب المقارنة، ولا ندعي أن البيك يحاور إدوارد سعيد بقدر ما يحاور الآخرين، ثم إنه لم يحدثنا في هذا الكتاب عن تجربة زيارة الوطن وعن إحساسه بعد أن تسنّى له ذلك، فيما تحدّث إدوارد سعيد عن تجاربه الواسعة خارج الوطن وما انتابه من مشاعر وأحاسيس وهو يتجول داخل الوطن أيضا. يصل القارئ إلى نتيجة سعى إليها سليم البيك وعمل على ترسيخها أن النكبة وما تلاها لم تتمكن من سلب الانتماء والهوية، وأن الفلسطيني ما زال يحافظ على البوصلة.

يغرق الراوي في سرد تفاصيل حياتية يومية، منها ما يضيف إلى مبنى الشخصية ورسمها، ومنها تفاصيل تشبه الشحم الزائد على جسم الرواية. وكان اتباعه أسلوب تيار الوعي سيفا ذا حدين على شكل الرواية ومبناها؛ فقد أتاح ذلك للراوي المشرف الكلي أن يتعمق في النفس البشرية وتشخيص الصراع مع الذات ومع الآخر، بحيث بدت الشخصيات، وبالذات الشخصية المركزية، مكتملة الملامح تكشف عن شخصية مركبة دائمة التفكير في الماضي والحاضر والمستقبل، ولكن ذلك مسّ، في النصف الثاني من الرواية، بصلابة النص بسبب استطالة التداعيات وإغراقها في تفاصيل لا تغني فكرة الرواية المركزية، نظرا لطرحها أكثر من مرة من قبل، خاصة فيما يتعلق بالناحية الجنسية وعلاقة الشخصية المركزية بالمرأة.

تذكرتان إلى صفورية تستلهم أحداثها من تجربة الفلسطيني بعد سبعين سنة من التشرد، وما آلت إليه أحواله، دون الدخول في تفاصيل الاقتتال والمواجهات، لأن موضوعها الرئيسي يتمحور حول الصراع الفكري، وحول ضرورة تجذير النكبة وأبعادها على الفلسطيني حيثما تواجد.

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

حسام أبو النّصر : فؤاد نقّارة، وصيّاد وصنارة.

حسام أبو النّصر فؤاد نقّارة، وصيّاد وصنارة رغم ظروف الحرب على غزة وهي الأولوية الآن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *