الناقد الأردني محمد رمضان الجبور : من رماد الفقد إلى ضوء الولادة.. قراءة تأملية في سرد الأديبة صباح بشير

الناقد الأردني محمد رمضان الجبور

من رماد الفقد إلى ضوء الولادة

 قراءة تأملية في سرد صباح بشير

 

في كلّ ولادةٍ حكايةٌ للوجود، وفي كلّ موتٍ بذرةُ حياةٍ تستيقظ من الرماد. من هذه المفارقة البديعة تولد رواية «فرصة ثانية» للكاتبة الفلسطينية صباح بشير، لتغزل من الألم نسيجًا إنسانيًا مشعًّا، يتأرجح بين النور والظلمة، بين بكاء المولود وصمت الراحلة. ليست الرواية مجرّد حكايةٍ عن امرأة تفارق الحياة لحظة إنجابها، بل هي تأمّل في سرّ الخلق واستمرارية الوجود، إذ ينهض الطفل «يحيى» كرمزٍ للبعث الأبديّ الذي يُقاوم الفناء ويعلن أن في داخل كلّ موتٍ حياةً أخرى تتفتّح.

تفتح الكاتبة نصّها على مشهدٍ نابض بالإنسانية، تصفه بواقعيةٍ مشوبةٍ بالشعر، فتُصغي للقلب وهو يرتجف، وللوجع وهو يصرخ باسم الحياة. هذا التمهيد لا يقدّم حدثًا عابرًا، بل يرسم الملحمة الصغرى للأمومة؛ فكلّ ألمٍ فيه هو طريقٌ نحو النور، وكلّ دمعةٍ امتدادٌ للرحمة الكامنة في طبيعة المرأة. لكنّ المعجزة لا تكتمل، إذ تتحوّل الولادة إلى لحظة فاجعة، فتغادر «فاتن» جسدها إلى سكونٍ أبديّ، تاركةً وراءها طفلًا يفتح عينيه على غيابها. عند هذه النقطة يتكثّف السؤال الوجوديّ الكبير: أيمكن أن تمنح الحياة نفسها عبر التضحية؟ وهل يُكتب للإنسان أن يولد من جرحٍ لا يندمل؟

العنوان «فرصة ثانية» يضيء الرواية من الداخل، إذ لا يشي فقط بإمكانية العودة إلى الحياة، بل يتجاوزها إلى فكرةٍ فلسفيةٍ عن التجدّد الإنسانيّ بعد الفقد. فكلّ شخصية في النصّ تُعطى فرصتها الثانية بطريقتها الخاصة: «مصطفى» الذي يتعلّم من الموت معنى البقاء، و«هدى» التي تكتشف أمومتها من رحم الحزن، و«الطفل يحيى» الذي يصبح رمزًا للمستقبل الموعود بعودة الضوء. الكاتبة تمارس فعل الخلق الأدبيّ بوعيٍ عميق، إذ تصوغ من الحكاية الفردية مرآةً للوجود الإنساني كلّه.

شخصيات الرواية تُكتب بالدمع لا بالحبر. فـ«فاتن» ليست امرأةً فحسب، بل قنديل أمومةٍ يضيء لحظة العتمة القصوى، حضورها يمتدّ بعد غيابها كأنّها طيف رحمةٍ يظلّ يرفّ على المكان. أما «مصطفى» فهو المكلوم الذي يجرّب معنى الانكسار، تتأرجح روحه بين الصبر واليأس، بين الذكرى والحلم، فيتحوّل إلى صورةٍ صافيةٍ للرجل الإنسان، لا للبطولة الذكورية التي اعتادها الأدب. و«هدى» التي تحتضن الطفل وتعيد ترتيب الفوضى، هي يد الحياة التي تُمسك بالحياة كي لا تسقط من جديد. هذه الشخصيات لا تتحرّك داخل أحداثٍ خارجيةٍ كثيرة، بل داخل مناخ نفسيّ عميق، حيث اللغة هي المسرح والوجدان هو الحركة.

لغة صباح بشير لغةٌ نقيّة، مشبعة بالعاطفة والخيال، تتقن الانتقال بين التوصيف الواقعيّ والانفعال الشعريّ. تصنع من المشهد الطبيّ لوحة إنسانية حافلة بالتفاصيل الدقيقة: «كانت تتصبّب عرقاً… ينهش الوجع جسدها… تتمسّك بيد زوجها وتبحث في عينيه عن النجاة».

الكاتبة تستثمر الإيقاع الداخلي للجملة، فتتقدّم اللغة مثل نبضٍ يتصاعد ثم يخفت. الصور المجازية تمتزج بالبساطة، وتحوّل الحدث الواقعيّ إلى تجربة رمزية: الولادة كمعراجٍ نحو الخلاص، والموت كعتبةٍ أولى لحياة أخرى.

لغة صباح بشير تملك طهر الماء وحرارة الدم في آنٍ واحد. تكتب بصدقٍ يجعل السرد يفيض بعاطفةٍ لا تنحدر إلى الابتذال، فتسكن الجملة نغمةٌ خافتة كأنها صلاة: «كان قلبه ينبض بجنون، كلّ نبضة تحمل معها جزءًا من قلقه وحبّه». في مثل هذه العبارات تتحوّل اللغة إلى مرآةٍ للروح، تُضيء الجرح من داخله بدل أن تشرحه. إنّها لغةٌ تمزج بين الواقعيّ والتأمّليّ، بين الدقّة في الوصف والرهافة في التعبير، وتستعير من الشعر مجازاته دون أن تفقد سلاسة النثر.

الزمان في الرواية يتدرّج من ظهيرة الولادة إلى ليل الحداد، في مسارٍ يشبه قوس الحياة نفسه، والمكان محدود – غرفة ولادة، بيت، مقبرة – لكنه يتّسع رمزيًا حتى يغدو كونًا صغيرًا تتجلّى فيه أسئلة الخلق والمصير. هذا التدرّج المكانيّ الزمانيّ يمنح الرواية عمقها الدراميّ الداخليّ، إذ لا شيء فيها يحدث خارج النفس، وكلّ شيء يتولّد من داخلها: الحزن، الحب، الصبر، وحتى الرجاء.

ولئن كانت الرواية في ظاهرها مأساة أُسريّة، فإنها في جوهرها رحلةُ وعيٍ وإنبعاث. فالفقد لا يُقدَّم بوصفه نهاية، بل كطريقٍ إلى إدراك قيمة الوجود. الكاتبة لا تمجّد الألم لذاته، بل تكشف عن الوجه الآخر له، وجه القوة التي تنبع من الهشاشة، والإيمان الذي يولد من اليأس. هكذا تكتب صباح بشير نصًّا يمجّد الأنوثة كقوة خلقٍ واستمرار، ويعيد تعريف البطولة في الأدب النسويّ المعاصر؛ فالبطولة هنا ليست في الصراع، بل في الصبر، لا في الانتصار، بل في القدرة على التحمّل والاحتضان.

وحين يسمّي مصطفى ابنه «يحيى»، تُختتم الرواية بما يشبه الوحي الرمزيّ، إذ تتقاطع الدلالات كلها عند هذا الاسم: الحياة، الخلاص، والبعث. الاسم لا يمنح الطفل هوية فحسب، بل يمنح العالم كله معنى الاستمرار، كأنّ الكاتبة تقول إنّ الإنسان لا يُهزم ما دام قادرًا على أن يُحبّ ويمنح فرصةً جديدةً للوجود.

في خاتمة هذا العمل، تتركنا صباح بشير أمام مرآةٍ نرى فيها وجوهنا المرهقة، ونسأل: كم مرة منحنا القدر فرصةً ثانيةً ولم ندركها؟ وكم من موتٍ مرّ بنا كان في حقيقته ولادةً مؤجلة؟

إنّ «فرصة ثانية» رواية تكتب الوجدان الإنسانيّ لا الحدث، وتستعيد من رحم الفقد معنى الحياة.

بأسلوبٍ يقطر صدقًا ودفئًا، وبجمالٍ لغويٍّ يشبه ندى الصباح على جرحٍ قديم، تقدّم صباح بشير عملًا يُذكّرنا بأنّ الأدب هو الفرصة الثانية للإنسان كي يفهم نفسه والعالم، وأنّ الجمال لا يُولد من اليسر، بل من المعاناة التي تُنبت الورد على أطراف المقابر.

في «فرصة ثانية»، تتقاطع مأساة الفرد مع فلسفة الوجود، وتتحوّل الكلمة إلى عزاءٍ نبيلٍ للإنسان في مواجهة فجيعته الكبرى.

إنّها رواية تتحدّث همساً وتبكي بصمت، تُعيد إلينا الإيمان بأنّ كلّ نهايةٍ تُخفي ولادةً، وأنّ الحزن – مهما أثقل الأرواح – يمكن أن يكون بذرة حياة جديدة.

بلغةٍ مشبعة بالشجن والضياء، تُثبت صباح بشير أنّ الأدب هو الفرصة الثانية للحياة بعد موتٍ صغيرٍ يمرّ بنا جميعاً.

وهكذا، تغلق الرواية صفحاتها كما يُغلق بابُ الكون على نبضةٍ أولى: كلّ موتٍ بداية، وكلّ نهايةٍ ولادة أخرى.

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

صباح بشير: أن تكون رفيقا للكتاب

  صباح بشير: أن تكون رفيقا للكتاب إنّ ولوج رياض الكتب لهو رحلة سامية، تحلّق …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *