إياد خليليّة: قراءة في رواية” فرصة ثانية” للروائيّة المبدعة صباح بشير

إياد خليليّة

قراءة في رواية” فرصة ثانية” للروائيّة المبدعة صباح بشير

صباح بشير كاتبة أنيقة حتى في حزنها، إلا أن الحزن يبقى حزنا في النهاية. سامحها الله فقد أقلقتني منذ الصفحات الأولى للرواية، لكنها كاتبة حاذقة، فهي تدفع القارئ بأسئلة وجودية هامة منذ البداية لتورطه معها في الأحداث، ربما كي لا يمل، أو ربما كي يجيب هو بحسب تصوره عن بعض الأسئلة الوجودية، التي أحيانًا لا نجد لها إجابة!

عشنا مع فاتن وعائلتها وزوجها مصطفى كل توتراتهم وقلقهم أثناء المخاض؛ لفاتن البطلة التي توفيت في المشهد الأول، والباقية حتى آخر صفحات الرواية، بل وآخر سطورها.

الروائية تقدّس الأم، وتحترم ألمها وتضحياتها. في الصفحة (9)، تسأل هدى “كيف تتحمل الأمهات كل هذا الألم؟ هل حب الأمهات لأطفالهن يستحق كل هذه التضحية؟” تتساءل أيضًا عند موت فاتن أثناء ولادتها: “أتخطف أرواح الأمهات في أقدس لحظاتهن، لحظة إهداء الحياة؟”

أختها هدى تسأل سؤالاً استنكاريًا ترفض فيه الموت والواقع: “هل ماتت شقيقتي فعلاً؟”

ننتقل من الألم إلى الأمل في الصفحة (30)، حيث تسلط الكاتبة الضوء على قدسية الصداقة وأهمية الأصدقاء في حياتنا، عندما تحل بأحدنا مصيبة، فتجزم أن الحب والدعم المعنوي هما أقوى الأدوية.

يتحدّث النص عن أصدقاء ثلاثة يعيشون في مدينة حيفا الجميلة، لكل واحد منهم حكايته وتفاصيلها المتفردة. مصطفى وحظه اللعين، الذي دخل في ظلام دامس بعد موت زوجته الحبيبة. على الرغم من غيابها، إلا أنها أنجبت له أملاً بعد ألم شديد، وهو طفلهما يحيى. فمصطفى الذي يصارع الحياة، فقد رغبته وشغفه فيها، إلا أن يحيى جدد الأمل في نفسه، فهو متورط بطفل لا بد له أن يجد من يقوم برعايته.

أما عبدالله ولبنى، ثنائي يصوران الحياة كأحد النماذج الموجودة في المجتمعات كافة، فنعيش معهما بداية جميلة وتفاصيل مؤلمة، يعانيها عبدالله مع زوجته المستهترة واللامبالية، لبنى، المهتمة بالمسلسلات وحفلات أعياد الميلاد، المتسلطة المستغلة لمشاعر زوجها وحبه لها.

صديقنا الثالث إبراهيم، الذي فشل في زواجه مرتين، رغم نجاحه الباهر في مهنته كطبيب أسنان، ومهارته التي يُشهد له بها، وموقفه من الزواج والارتباط.

قَنصتُ من ثنايا الصفحة (45) حاسة الشم، أهميتها والدور الذي تلعبه في اجتذاب الآخر، تذكرت أحلام مستغانمي في “ذاكرة الجسد” وهي تمجد حاسة الشم وأنها أكثر الحواس إثارة وأعمقها إغواءً.

“يشتم رائحة عطرها الجذاب، يحس بدفء جسدها يهدد تركيزه ويعيق عمله”. كاظم الساهر يغنّي: “لجسمك عطر خطير النوايا”.

نعم، أتفق أن حاسة الشم من أهم الحواس، وهي من تصنع الفوضى المحببة للعقل والحواس.

تصور لنا الكاتبة هشاشة الإنسان الفاقد، الغارق في الوحدة والاغتراب، وسهولة تعثره أو وقوعه في شراك علاقة تهدئ من روعه وعزلته التي يشعر بها، وآلامه التي يسكنها في تخدير مؤقت عبر علاقة سريعة.

تؤكد على خطورة وأهمية الرائحة في الصفحة (49): “كانت مزيجًا من عطر”، “رائحة طعامها اللذيذ”، “تلك الرائحة بمثابة بصمة خاصة تميزها”، “تلك الرائحة ليست مجرد شعور حسي فحسب”، وفي الصفحة (50) أيضًا: “رائحة أمي الخاصة، رائحة بكر شهية طبيعية نقية صافية”.

شغفنا بالأحداث والتنقل بين الأصدقاء، وشغب سناء سكرتيرة مصطفى التي مارست أنوثتها عليه بكل دهاء.

كانت الكاتبة تضع بين يدي القارئ المفارقة والمفاضلة بين أنواع النساء؛ كهدى التي لا تثير مصطفى لقلة خبرتها، وربما لطريقة عيشها المنغلقة، كما حدث مع لبنى عندما شكت لهدى عن طفولتها وريعان شبابها لأبوين لا يسمحان لها بالخروج والتمتع بالحياة وبأنشطة تحبها، وأن استخدام دهاء النساء ومهارة استمالة وجذب الرجال من خلال النظرات الساحرة، وبخصر راقص وجسم ممشوق وشعر يركض خلفها ويتبعها كظلها، وجاذبية عطرها ونطقها، فبعضهن يملكن تلك الأدوات ويحسن استخدامها، لتنسف عرش الرجل مهما علا شأنه أو مقامه.

سناء صانعة السحر الأنيقة في عطرها وجمالها وتفاصيلها المغرية، حاولت أن تصنع عالمها مع مصطفى مديرها بالعمل، وهي من أخطر العلاقات والمتكررة في مجتمعاتنا مع الأسف، تبدد حلمها وأحست بالخذلان الذي لا يصفه إلا من وقع حقًا به، فطعم المرارة فيه شديد.

إبراهيم ذلك الطبيب الذي فشل في زواجه مرتين، وله الحق في الحذر وله وجهة نظره فيه، وتساؤلاته أيضًا منطقية.

يحيى وهدى وسناء وعبدالله ضحايا مجتمع لا يفقه إلا لغته التي تترجم في ألم الإنسان وظلمه.

إبراهيم الذي واجه أفكارًا معقدة حول ماهية الزواج ودور المرأة فيه: “هل الزواج مأوى للحب أم قيد للأرواح؟” يسأل إبراهيم أسئلة عميقة جدًا حول معنى الحب، وماهية العلاقة، وقيمة الالتزام، ودور القدر، وحقيقة السعادة، منها: “هل المرأة شريكة في رحلة الحياة، أم لغز نحاول نحن الرجال فك رموزه؟” (ص58)، كنت أتمنى أن يدور حوار ما مع طليقتي إبراهيم، وما إذا كانت تلك الأسئلة على لسان امرأة. إجابات جدلية معقدة خاصة لكل إنسان، والإجابة عليها تركتنا في عصف ذهني معها ومع النص ومع ذات الشخصيات الداخلية.

إبراهيم يعيش ليلة حمراء فيستريح من ثوراته التي تقام ضده في كل فراغ، أو تفكير خاص يحرض رجولته عليه، أقام علاقة مع نادية جارته وهو منهك من عمله. أعتقد أن الصفحة (99) مضغوطة بطريقة سرقت من المشهد والعلاقة الحميمية أهميتها وأثرها على طرفي العلاقة، وصيغت بطريقة سريعة، وأعتقد أن الحياء والمواربة في رسم المشهد أخذ منه دهشة اللقاء: “استسلم كطفل يبحث عن الأمان، لا يشعر إلا بحاجته للحنان.”، وفي نهاية المشهد: “شكرها وهم بالمغادرة، بعد شعوره بالراحة”.

ذكرني هذا المشهد بسرعة أدائه بتساؤل باولو كويلو في روايته “إحدى عشرة دقيقة”، لماذا دنس الجنس وأصبحت نظرتنا إليه دنيئة بهذا الشكل؟ هل موروثنا الثقافي وعاداتنا وتقاليدنا جعلتنا نتوه بين الرغبة وإفراغها بطريقة خاطئة؟ أو ربما متسرعة تؤذي في النهاية الشريك؟ لماذا نشعر بذلك الشعور، رغم أنهم أقاموا العلاقة بالرضا والتراضي؟

تحدثت الكاتبة عن مشاعر إبراهيم، وبقيت مشاعر نهاية بلا نهاية لنا، فهل شعرت بالرضا والسعادة؟

كما جعلتنا نعيش الصراع في اتخاذ القرارات الكبرى، فتحكيم العقل على القلب يحتاج إلى مهارة وخبرة في الحياة، فهي قرارات صعبة الاتخاذ كما هي صعبة التنفيذ، وأحيانًا نواجه الندم عليها مدى الحياة.

تساءل صديقنا مصطفى نفسه (ص 120): “هل سأتمكن من العيش بسلام مع نفسي بعد أن تخليت عن قناعاتي؟” هنا توقفت كثيرًا وبدأت أفكر في عمق هذا السؤال وأهميته، فأهمية العيش مع النفس بسلام درجة عليا في هذه الحياة وتقلباتها وصراعاتها. فما أصعب أن تعيش مصيرًا مجهولًا بين ماض مؤرق ومستقبل يغلّفه الغموض!

“(هل انتهى كل شيء حقًا)؟”.. صباح بشير مستفزة في طرح الأسئلة، تعيد إليك تشتتك في ماضيك وربما في حاضرك.

تكمن جمالية الرواية أنها كتبت بالسهل الممتنع، إن قرأتها دون أن تعيش أحداثها تظنها عملاً أدبيًا عاديًا ومكررًا، كأي مسلسل أو فيلم عربي. ولادة، وموت الأم، وحزن العائلة، وتشتت الأب وإثارة الشفقة عليه، ووقوعه في الحب.

لبنى وعبدالله يعيشان في صراع فكري وعدم انسجام، وهذا يحدث أيضًا…

إبراهيم الناجح والفاشل، معًا… والباحث عن السعادة التي لا تترجم بورقة أو وثيقة رسمية، أكثر ارتباطًا من الأرواح، وهو لا يؤمن أن الزواج ذو أهمية أو معنى! يؤمن بالحب والارتباط الروحي: “لا تقفل قلبك أبدًا فالحياة جميلة، كيف نعيشها بقلب مغلق؟”. “ما الفائدة من زواج لا يلبي احتياجاتنا العاطفية والفكرية والجنسية؟” (ص 157) “هل يستحق الزواج الحفاظ عليه إن لم يجلب لنا السعادة التي نستحقها؟”

الإجابة على بعض الأسئلة التي وردت لتثير القارئ وتحفزه للمشاركة، ليكون بطلاً ولو مهزومًا من أبطال الرواية في الصفحة 209: “إن الحب لا يمكن شراؤه، هو قدر مقدر”.

رواية شيقة وممتعة، جدلية، مغلّفة بالأسئلة. فيها صمت يملأ الوجود بالضجيج، وفيها غياب وفيها ضياع وتشتت وتكامل! فيها خوف من الإجابات على الأسئلة، وأمل مجبول بألم خفي وغموض واضح…

أنصح الكاتبة أن تتجرأ في حواراتها، ولا تكبح جماح مفرداتها.

“وتبقى الموسيقى لغة عالمية إنسانية يفهمها الجميع”، وكما قيل الأوغاد لا يسمعون الموسيقى.

22/8/2024

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

د. خالد تركي: نافذتي تُطلُّ على رواية “إِيفانوف في إِسرائيل”

د. خالد تركي نافذتي تُطلُّ على رواية “إِيفانوف في إِسرائيل” شاهدٌ على النَّكبة     …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *