إبراهيم طه: سقوط النقوط
إبراهيم طه
سقوط النقوط
هذي المقالة، مثل التي سبقتها، مهداة لروح الصديق الأديب محمّد نفّاع في الذكرى الثالثة لرحيله. كنّا نتفاكر في أمور الأدب والفكر والسياسة والمجتمع. نتحدّث أحيانًا بعد مقال يكتبه هو فأتّصل أو بعد مقال أكتبه أنا فيتّصل ونثرثر. اتّصل مرّة بعد مقال نشرته في الاتحاد قبل سنوات بعنوان “بِساسُنا وبِساسُهم”. اتّصل وهو يضحك ضحكته الفلّاحيّة المعروفة. سألته قال أنا في البنك أنتظر دوري والدور طويل. قلت وماذا يفعل واحدٌ مثلك في البنك؟! علت ضحكته قليلًا وقال طرف الجواب في مقالك أنت. مقالك هذا نموذج عمليّ تطبيقيّ حيّ للفكر الاشتراكيّ.. تفاجأت، ذهلت، ارتبكت. قلت لستُ اشتراكيًّا بالتنظير. ولم أكتب إلا ما حدث معي بالفعل بعيدًا عن أيّ خلفيّة فكريّة جاهزة كهذه. ضحك وقتها وقال هي كذلك، الاشتراكيّة حياة وفطرة… واتّفقنا على مواصلة الحديث.
كانت الأعراس جزءًا من بعض ثرثراتنا. اتّفقنا على أنّ الأعراس بصيغتها القديمة أحسن، أحسن وأمتع وأصدق لأنها كانت محكومة بمبدأ التكافل الحقيقيّ الصادق والمنضبطة بإيقاع القلّة. مع مرور الوقت تعلمنت الأعراس. صارت عِلمًا يطلع من أصل ويتفرّع في فروع ويتشعّب في شعاب. هي علم معقّد لأنها تتغذّى على تفاصيل لا حصر لها. وهي علم لأنها صارت نسقًا ثقافيًّا يعبّر عن ذهنيّة مركّبة في مسيرة “التطوّر والارتقاء” الإنسانيّ الحضاريّ عندنا. أعراسنا مادّة غنيّة لعلماء الأنتروبولوجيا والسوسيولجيا والسيكولوجيا. هذي المقالة امتداد لمقالة الأسبوع الماضي “إعراب دعوة لحفل زفاف”. تسير على هديها ونهجها. توسّعٌ في نقاش الأصول والفروع. والنقوط فرع مركزيّ في علم الأعراس. فرع غارق في تفاصيل مخجلة وانتهاكات أخلاقيّة ودينيّة وفكريّة وإنسانيّة ومادّيّة.. هذا ما يحدث اليوم. الماضي يختلف.
النقوط في اللغة
النقوط من النقطة. والنقطة من كلّ شيء هي الجزء الصغير منه. وهي أساس كلّ تشبيه بالقلّة مثلما يقول ابن فارس والزمخشريّ. ما يعني أن يكون النقوط موسومًا بالقلّة على قدر الحاجة. أي أنّ الحاجة شرط النقوط، إذا انتفى الشرط انتفى جوابه، إذا انتفت العلّة انتفى المعلول بالضرورة. والنقوط بمفهوم القلّة يعني أن نُعين صاحب العرس بالقليل الذي نقدر عليه والذي يحتاجه هو. هذه المعادلة، القائمة على قاعدة القلّة، ينبغي أن تكون واضحة للطرفين، لصاحب العرس والمدعوّين، وتضبط سلوك كلّ منهما بنفس القدر بالضبط والتحديد.. هذا في اللغة. الواقع يختلف.
النقوط وتعريفه النظريّ
دار الإفتاء المصريّة حدّدت ماهيّته النظريّة بإيجازٍ لا يخلّ بالمعنى: “الأصل في النقوط أنه عادةٌ مستحبّة، مبناها على تحقيق مبدأ التكافل بين الناس عند نزول المُلِمَّاتِ أو حدوث المسَرَّات، بأن يبذل إنسانٌ لآخَر مالًا – نقدًا أو عَيْنًا – عند الزواج أو الولادة أو غيرهما من المناسبات، وذلك على سبيل المسانَدَة وتخفيف العبء أو المجامَلة، ويُرجَع عند النزاع بين أطرافه في كونه دَيْنًا واجب الأداء متى طُولب به، أو هبةَ ثوابٍ يُرَدُّ مثلها في مناسبةٍ نحوها للواهب، أو هبةً محضةً يُستحبّ مقابلتُها بمثلها أو أحسن منها من غير وجوب ولا إلزام، يُرجَع في ذلك كلِّه إلى أعراف الناس وعاداتهم التي تختلف باختلاف الزمان والمكان، ويحكم بها أهلُ الخبرة فيهم”. ألخّص ما قالوه في دائرة الإفتاء المصريّة بجملة واحدة: النقوط آليّة إجرائيّة عُرفيّة لتحصيل مبدأ اشتراكيّ فطريّ. وإذا كان النقوط حالة ظرفيّة عُرفيّة فالعُرف يتغيّر ويتبدّل بالضرورة.. هذا في النظريّة. التطبيق يختلف.
النقوط في التراث
هكذا ضبط آباؤنا وأجدادنا النقوط وثبّتوه في معنيين: الحاجة والقلّة. هكذا فهموه وهكذا طبّقوه.. حصلت على ورقة “قديمة” يعود تاريخها إلى ثلاثة وستّين عامًا قد انقضت سجّل فيها أصحابها النقوط بشيء من الإيجاز. عنوان الورقة: نقوط كمال في 10/4/1961، وفيها: 2 كيلو سكّر، 2 كيلو رز، نص كيلو قهوة، دجاجة، 6 ليرات، بدلة، 10 بيضات، كيلو فستق، 4 ليرات، بكيت راحة… هذه نماذج موثّقة من النقوط محفوظة عندي وليست افتراضيّة. ما زلت أحفظ في ذاكرتي ظاهرة القُبَع، التي نشطت قبل خمسة عقود تقريبًا، وكانت تتّسع لصاعين من الرزّ الحلّ الفرط والسكّر يحملنها على رؤوسهنّ يغطّينها ببشكير خاصّ يُحفظ في النمليّة لهذا الغرض. أمّا “الموسر المقتدر” فيحمل شوالا من القهوة أو عديلة قمح أو تنكة زيت زيتون أو خلقينة سليقة أو يجرّ ذبيحة. هكذا كان النقوط على خمسة أشكال: الحبوب ومشتقّاتها وتوابعها مثل العدس والحمّص والفريكة والبرغل والسميدة والقمح والذرة. الخضراوات والفاكهة مثل البامية والبندورة والكوسا والفاصوليا وما تنتجه الربعان والخلايل والمقاثي من فاكهة صيفيّة. الزفر مثل السخول والخرفان والدجاج والبيض والسمنة. مستلزمات العرس ممّا لا تنتجه الأرض مثل ملابس العريس والقهوة والسكر والشاي. وأخيرًا النقوط النقديّ وهذا كان على قلّة..
كلّ هذه الأشكال الخمسة تتّجه مباشرة إلى الحاجات الأساسيّة للعرس، تصبّ مباشرة في المستلزمات القبْليّة الضروريّة لإتمام الزفاف. كان النقوط بالفعل حاجة ملحّة للتكاتف والتعاضد والتكافل بين الناس. كان له قيمة ومعنى وقت كان صاحب العرس يحتاج فعلا إلى “فزعة” حقيقيّة. حتى الأواني كانوا يجمعونها من الجيران والأهل والأقرباء مثل الصحون والقدور النحاسيّة الكبيرة والدرابي والطناجر والملاعق، على قلّتها، والأطباق المجدولة من قشّ الحلفا. وكراسي القشّ والطبليّات، حتى هذه كانت تحتاج إلى “فزعة”. قال ابن خلدون الإنسان مخلوق اجتماعيّ تشاركيّ بالفطرة.. هذا كان في الماضي. اليوم يختلف.
النقوط اليوم
يستقبلك صندوق النقوط قبل أن يستقبلك صاحب العرس نفسه. يضعونه في المقدّمة، مثل الإشارة الضوئيّة (الرمزور) يوضع في الصدارة لا يسمح لأحد أن يعمى عنه أو يتجاهله. تقضي فيه دينك تودعه في الصندوق “الأسود” قبل أن تصافح وتسلّم وتعانق وتقبّل وتُبارك وقبل أن تتعشّى أو تتنقّل أو تتحلّى. ولماذا لا يوضع الصندوق في نهاية الصفّ من المستقبلين إن كان لا بدّ منه أصلًا؟! أليس من الأَولى أن أسلّم قبل النقوط؟! في بعض الأعراس، لا يختلف الصندوق المنمّق والمزركش عن المنديل البسيط أو الحطّة التي يفردها الشحّاذون على أبواب الله، في بعض الأعراس.
من الناس من يرتبك عندما تنقّطه، يغضّ بصره، يتلعثم، يتذبذب، يتكتّم، يستحي وكأنه عملَ شائنًا. ربّما لأنه يعلم بأنّ النقوط اليوم هو عادة أو عرف تراكميّ قد فقد معناه وغايته الأصليّة. قد لا تكون لصاحب العرس حاجةٌ بنقوط أحد إن هو اقتصد وأقام حفلًا مُلملمًا مختصرًا حسب قدرته. لكنّ مِن الناس اليوم مَن يباهي بالعرس على مستوى العدد والحجم والمساحة والكيل والامتداد. يحبّ الأعراس الكبيرة. يستعملها وثيقة أو دليلًا دامغًا على مكانته الاجتماعيّة الرفيعة! يحضّر للعرس قبل موعده بسنة أو أكثر. وكلّما ضَخُم العرس وعَظُم ازدادت المصاريف واحتاج صاحب العرس إلى مزيد من النقوط. ذكّرتني هذه المعادلة الغريبة بجملة قالها الشحّاذ في قصّة “حكاية مصريّة جدًا” ليوسف إدريس، وهو يحاول أن يستثمر عاهته، قال: “ساقاي المقطوعتان رأسمال لا بأس به أبدًا لا بدّ أن أشغّله”. من أغرب المفارقات التي سمعتها في حياتي! بعض الأعراس اليوم شحاذة وابتزاز. المحصّلة الأخيرة لهذه المفارقة الغريبة أن يتشرّف صاحب العرس بدعوة الناس كي يطعمهم من الخرفان التي يشتريها على حسابهم هم!
نقوط اليوم تبذير، تفاضلٌ بين الناس وتفاخرٌ بينهم. نقوط اليوم يتّجه مباشرة إلى تمويل البهرجة. كثيرون يقيمون الأعراس الاستعراضيّة المكلفة ويصرفون فيها مئات آلاف الشواقل آملين تمويلها من النقوط. هل هذا يستحقّ النقوط؟! هل هذا يستحقّ المشاركة أصلًا؟! نحن نشارك في تبرجز رخيص ومقيت ومعيب. نشارك في تعزيز ثقافة الاستهلاك المادّي، ثقافة التباهي والفراغ والمفسدة.. هذا ما يحدث اليوم. الماضي يختلف.
زفرات بالتنقيط
ظاهرة الحِبال النقديّة المشكوكة والمطرّزة، أقصد القلائد وأكاليل الدولارات واليوروهات والأوراق النقديّة الملوّنة التي يتقلّدها العريس، فضيحة كبرى عليها شهود كثر.. انحطاط!!!
لو اقتطع كلّ صاحب عرس في بلادنا من نقوطه نسبة العُشر، يرصدها لأهلنا المنكوبين في غزّة أو يرصدها لطلّاب العلم والمحتاجين، لجمعنا ملايين الشواقل في كلّ موسم!
في بلدان كثيرة يطالبون بتوحيد النقوط وخفضه إلى الحدّ الرمزيّ. فكرة ممتازة. وهي خطوة باتجاه التنازل الكامل عن فكرة النقوط. علمت أنّ وفودًا من بني النعيم قضاء الخليل عندما يشاركون في عرس عندنا لا “ينقّطون” مطلقًا. يُكرمون المعزّب بحضورهم. والمعزّب غانم ربّاح “يربح شوف الأوادم”. يُشرّفون المعزّب بحضورهم وليس بنقوطهم. الشرف الذي يناله صاحب العرس غير مشروط بنقوط، وعندما يخالطه دفع أو غرامة يصير مشروطًا. سمعت عن رجل غانم كهذا من قرية المزرعة كان يشارك الناس أفراحهم دون نقوط وحين زوّج بناته وأبناءه لم يقبل نقوطًا من أحد.. مشرّف!
أخبرني الصديق العزيز أبو إبراهيم توفيق كناعنة أنهم في عرّابة قرّروا مقاطعة كلّ من يطلق النيران في الأعراس بصرف النظر إن كانت النيران حيّة أو ميّتة. فكرة في محلّها وأوانها. أرجو أن يسمح لي أبو إبراهيم أن أوسّع الفكرة لتشمل المقاطعة كلّ من يمدّ يده إلى نقوط غيرَ محتاج ولا مُعوِز.
سقط موجِبُ النقوط. سقط وتداعى وتهاوى وتهشّم وتحطّم منذ زمن بعيد! ألم يحن الوقت حتى نراجع هذه المسألة ونقلّب النظر في مصداقيّتها وضرورتها وتبعاتها الكارثيّة على المستوى القريب والبعيد؟!
تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.