إبراهيم طه
القاموس الحَريميّ
هذا المقال الثالث والأخير في الذكرى الثالثة لرحيل الصديق محمّد نفّاع أديب الناس وعاشق لغتهم وكلامهم. وفيه زفرةٌ وموقف. والمقال في أصله بحث أكاديميّ مستفيض في لغة الحُرْمة والحَرَم والحَريم التي التصقت بالمرأة وانسربت بهدوء إلى خطابنا العامّ. تسلّلت واندسّت في وعينا العامّ على غفلة منّا. وباتت تتمترس فيه حتى أصبحت تمثّل نسقًا ثقافيًّا وحضاريًّا يضبط فكرنا ويفرض سلوكنا بقوّة التراكم. لكن، من أين أتانا هذا القاموس الحريميّ؟ ما هي مصادره؟ وما هي معانيه ودلالاته وإسقاطاته الثقافيّة والحضاريّة والاجتماعيّة والدينيّة؟ هذه أسئلة كبرى، كلّ واحد منها من مجال معرفيّ مستقلّ. عدت إلى المعاجم العربيّة والنصّ القرآنيّ الكريم، حاولت أن أتقصّى هذا القاموس في رحلته الظنّيّة من اللغة إلى الكلام، قصدي من المعاجم إلى التداول.
الحُرمَة والحَرَم والحَريم في المعاجم
في كلّ المعاجم العربيّة العشرة الكبرى المعروفة على امتداد عشرة قرون، من “العين” للخليل بن أحمد حتى “تاج العروس” للحسينيّ، ألفاظ الحرام تعني المنع والحظر والتشديد. الحُرْمَة والحَرَم والحَريم والحرام كلّها تستقيم في معنى واحد. وأصلها في لغتين: حَرُمَ وحَرِمَ. ويُجمع بعضها على حُرُمات. وهي كلّها ضدّ الحِلّ والحلال. كلّ مرادفات أو مشتقّات الحَرَم والحرام والحَريم والحُرمة تعني المحرّم الذي “لا يَحِلّ لك انتهاكُه” أو “ما لا يحِلّ استحلاله” أو ” الذي حَرُمَ مَسُّه فلا يُدنى منه” أو ” ما يجب عليه [على الرجل] حفظه ومنعه”، “وذلك مشتقٌّ من أنّه حرامٌ إضاعتُهُ وترْك حفظه”. هكذا صار الحَريم، كلّ حَريمٍ ومثله الحَرَم، ذا حُرمةٍ تحصّنه وتحميه وتوجِبُ الدفاع عنه وتمنع إيذاءه أو المسّ به.
هذي هي المعاني المعجميّة العامّة المطلقة. هذي المعاني في اللغة ذاتها. إذا كان الحرام والتحريم يشمل المحظورات الممنوعات كلّها فهذا يعني أمرين اثنين: (1) “الحرام” هي لفظة جامعة حاشدة. فالمحرّمات ليست محصورةً في أمر واحد أو مقصورةً عليه. (2) هي من ألفاظ الموقف والقرار وليست من ألفاظ الحياد. ما يعني أنّ التحريم مردود إلى موقف أو قرار يخضع للتسويغ والتفسير.. بالعودة إلى هذه المعاجم وجدتُ أنّ بعضها يجعل النساء من معاني الحَرَم. وبعضها الآخر لا يذكر هذا المعنى مطلقًا. إذًا، لماذا جعلتها بعض المعاجم بهذا المعنى المحصور؟!
الحُرمَة والحَرَم والحَريم في القرآن الكريم
أخطأ من أصرّ على الربط بين التداول اللغويّ لألفاظ الحريم والقرآن الكريم. المفردات الثلاث، الحُرمة والحَرَم والحَريم، لم ترد في القرآن الكريم موصولة بالمرأة مطلقًا: (1) الحُرمة، وجمعُها حُرُمات، ذُكرت مرّتين في القرآن الكريم: في سورة البقرة (194) وسورة الحجّ (30). وفي الموضعين كليهما ذُكرت بالجمع للدلالة على جمع معانيها ولم تُذكر بالإفراد مطلقًا. وكأنّ في هذا إشارةً إلى أنّ الحُرُمات هي مسألة جمعيّة لا تستقلّ في حالة خاصّة، لا تنحصر فيها ولا تقتصر عليها. (2) لفظة الحَرَم لم ترد في القرآن الكريم بمعنى الإنس على الإطلاق. وقد وردت مرّتين بمعناها المكانيّ الجغرافيّ فقط: في سورة القصص (57) وسورة العنكبوت (67). (3) أمّا لفظة الحَريم فلم تُذكر في القرآن الكريم ولو مرّة واحدة… لا يمكن الجمع إذًا بين المرأة وألفاظ الحُرمة في علاقة عضويّة حصريّة.
ثمّ أخطأ من جعل أصول هذا القاموس اللغويّ الحريميّ في ثنايا النصّ القرآنيّ الكريم وتضاعيفه. تُذكر المرأة في القرآن الكريم في ثلاثة أوجه كبرى. وكلّ وجه منها يخضع بالضرورة لاعتبارات السياق. وهو ما يحدّد المعنى الأدقّ: (1) اسم الجنس على أساس التفريق الجنسيّ البيولوجيّ الثنائيّ المعروف: الأنثى والذكر. (2) الكنية وهي نوع العلاقة بين الأنثى مع أسرتها، كأن تكون أمًّا أو أختًا مثلًا. (3) الصفة الموصولة بنوع العلاقة مع الرجل، كأن تكون الأنثى زوجًا أو امرأة أو صاحبة أو مطلّقة أو متوفّى عنها زوجها هي الأرملة. وكلّ حالة منها تحمل معنى مختلفًا موصولًا بالسياق…. كلّ هذه الأوجه الثلاثة محكومة بثلاث قواعد تعبيريّة كبرى:
القاعدة الأولى: التسمية في القرآن الكريم هي أولى آليّات التعريف العَلَميّ. لا يُذكر في القرآن الكريم أحدٌ من الناس باسمه العَلَميّ الصريح، من الذكور والإناث، إلا من كان له شأنٌ خاصّ هو نفسه محلّ اهتمام الكلام. رجالٌ كثيرون ذُكروا بصفاتهم أو كنياتهم، أو بإشارات عامّة، ولم يُذكروا بأسمائهم. وعلى رأس هؤلاء صاحب رسول الله الصدّيق أبو بكر لم يُذكر إلا بالصفة وليس باسمه الصريح في سورة التوبة (40). لم تُذكر أيّ من النساء باسمها الصريح إلا مريم، عليها السلام، لأنّ لها قصّة مستقلّة قائمة في ذاتها وليس لأنها أمّ عيسى المسيح نبيّ الله. وقصّتها مع الحمل والولادة تتّصل بجوهر الرسالات السماويّة كلّها هو التوحيد. أمّا امرأة نوح ولوط وفرعون فلم يكنّ محور الكلام بل أزواجهنّ.. في هذه القاعدة تتساوى الأنثى والذكر بنفس القدر بالضبط.
القاعدة الثانية: في النصّ القرآنيّ أعراف لغويّة مأنوسة على مستوى اللغة والبيان والبلاغة. هكذا نجد في النصّ القرآنيّ كلامًا منقولًا على ألسنة الشخصيّات نفسها، كقولهم “يا أخت هارون” أو “امرأة العزيز”. “يا أخت هارون” مثلًا هو تعبير ورد على لسان قوم مريم. وفيه إنكار وعتاب، حينما جاءت إليهم تحمل وليدها، لظّنّهم بأنها اقترفت إثمًا. عاتبوها وتساءلوا كيف جئتِ شيئًا فريًّا وأنتِ أخت هارون من سلالة نبيّ أو رجل صالحٍ وأمّك لم تكن بغيًّا؟! (سورة مريم: 27 – 28). إذًا هو للعتاب وليس استعلاء أو تحقيرًا أو تنكّرًا لذاتها الأنثويّة بدليل أمرين: (1) إنّ الله وملائكته ينادونها باسمها “يا مريم” في النصّ القرآنيّ. (2) قولهم “يا أخت هارون” كلامٌ منقول عن لغة القوم أنفسهم يعبّر عن موقفهم هم في سياق محدّد. على العموم، الكُنية في اللغة العربيّة التداوليّة هي مسألة عرفيّة. وهي من آليّات التعريف العَلَميّ المعتمدة التي قد تُعلي من شأن المسمّى ومكانته.. وبهذا أيضًا تتساوى المرأة والرجل في القرآن الكريم.
القاعدة الثالثة: كلّ تعريف للأنثى بالصفة يحدّده نوع العلاقة مع الذكر/الرجل. وهو في القرآن الكريم شأنٌ سيميائيّ خاضع بالضرورة لاعتبارات المعنى. والمعنى مسألة سياقيّة مثلما تقدّم. قدّرها القرآن الكريم حقّ قدرها وجعل لها في كلّ حالة تكون عليها صفةً مختلفة. فحين تتوافق مع الذكر وتتناغم وتنسجم فهي “زوج”. وحين تختلف معه أو عنه فهي “امرأة”. وحين تنفصل عنه أو تفارقه وتنقطع فهي “صاحبة”.. بهذا التنويع في التوصيف فضّل النصّ القرآنيّ الأنثى على الذكر.
القاموس الحريميّ في التداول
إذا كانت ألفاظ الحَرَم شاملة حاشدة، بمعانيها المعجميّة العامّة المطلقة، جاز لكلّ جماعة من الناس إذًا أن يحدّدوا بأنفسهم حُرُماتهم، التي توجب الدفاع عنها من أيّ مسّ بها، وأن يسمّوها فيما بعد حَريمًا أو حَرَمًا. هكذا اختار بعضهم مكّة والمدينة مثلا وجعلوهما حَرَمين. وانتقوا البئر وجعلوا لها حَريمًا، لأنّ حوضها يحرم على غير صاحبه أن يحفر عنده، والجامعة أيضًا وسمّوها حَرَمًا، مثلما انتقوا المرأة المتزوّجة وسمّوها حَريمًا أو حَرَمًا بوصفها محرّمة إلا على زوجها.. كلّ هؤلاء قد انتقوا وخصّصوا وحصروا وقصروا واستغلّوا ما تتيحه المعاجم على مستوى المبدأ.. إذًا ما فعله هؤلاء هو تداول خاضع لاعتبارات مختلفة خارج اللغة. بمثل هذا التداول والتوظيف تتّسع المفردات في معانيها. ومبدأ التداول والشيوع في اللغة موصول بالذهنيّة الثقافيّة الحضاريّة العامّة.
علاقة المرأة بالحُرمة والحَرَم والحَريم هي علاقة صاعدة من تحت إلى فوق، من الواقع إلى المعجم، من الكلام إلى اللغة. اللغة المعياريّة المعجميّة وفّرت المعنى المطلق العامّ، وهو المنع والحظر والتشديد، به أتاحت لبعضهم أن ينتقوا البئر والجامعة والمرأة كي يجعلوها حريمًا أو حرمًا. ويظلّ السؤال مطروحًا: إذا كانت حُرمة مكة والمدينة والبئر والجامعة والمرأة مسألة تداوليّة، ليست معجميّة في الأصل، فلماذا لا يكون الرجل حَريمًا أو حَرَمًا ذا حُرمةٍ مثل المرأة، مثلها بالضبط، بوصفه مُحرّمًا إلا على زوجه؟! جاز أن يكون مثلما جازت بالضبط. فالرجل حَرَمٌ لأنّه زوج له حُرمة.
من أصرّ على الربط بين المرأة والقاموس الحريميّ هو المجتمع القبليّ والذكوريّ والسياق العامّ. من أصرّ على الزجّ بالمرأة لتمثيل هذا القاموس هو الذكر وليست اللغة في ذاتها وليس النصّ القرآنيّ. في المجتمعات القبليّة الذكوريّة الذكر هو الحامي يحمي زوجه وأهله وعشيرته وقبيلته. هذا المعنى، أقصد الحماية والذود والدفاع، يؤكّده الخليل في العين وكلّ من جاء بعده بمعجم عربيّ. وهذا كلّه لا يضمنه إلا الذكر الفحل. ولن تجد في القرآن الكريم مشتقّات الحرام قد اختّصت وانحصرت بالمرأة على نحو ما نجده عند العامّة من الناس. والحسينيّ في تاج العروس يؤكّد ذلك بقوله “ومنه إِطلاقُ العامّة الحُرْمَة بالضمّ على المرأةِ كأنّه واحِدُ حُرَم”.
تأكيد وتشديد
“مشكلة” اللغة، في علاقتها بالمرأة، ليست في الكنية أو الصفة بالمطلق بل في القاموس الحريميّ. وهو من إفرازات التوسّع اللفظيّ السياقيّ الظرفيّ العُرفيّ. وإذا كان سياقيًّا ظرفيًّا عرفيًّا فهو اجتهاد. وإذا كان اجتهادًا فهو متغيّر متبدّل بطبعه غير مقدّس. لماذا تصرّون إذًا على حصر معاني الحَرَم في المرأة وقد وردت في القرآن الكريم معجميّة عامّة شاملة؟! الإصرار على الكناية عن المرأة بقاموس الحريم هو اختزال لها وتقزيمٌ لقيمتها. وما اختصّوها بهذا القاموس إلا لأنهم استضعفوها فأحوجوها باستمرار إلى صيانة وحصانة وحماية. ما اختصّوها بألفاظ الحُرمة والحَرم والحريم إلا لأنهم جعلوها ضلعًا قاصرًا أو مخلوقًا هلاميًّا هشًّا. وهذه ذهنيّة فحوليّة وليست تكريمًا.
وبعد، لا يجوز توصيف المرأة أو تعريفها بالحَرَم إلا إذا تحقّقت فيه ثلاثة شروط مجتمعة، وإلا فهو ظلمٌ وعدوان: (1) إذا ثبت أنّ المرأة ضعيفة بالفعل في هذا الوقت، وليست مستضعفة، تحتاج إلى حماية أو تحصين بصفة مستمرّة. (2) إذا اقترنت صفة الحَرَم باسمها العَلَميّ الصريح وكنيتها إن كانت لها كنية. (3) إذا جعلنا الرجل حَرَمًا أو حَريمًا ذا حُرمةٍ مثل المرأة، مثلها بالضبط، بوصفه مُحرّمًا إلا على زوجه.