إبراهيم طه: إعراب دعوة لحفل زفاف

إبراهيم طه

إعراب دعوة لحفل زفاف

لروح الصديق الأديب محمّد نفاع

 

نصّ الدعوة

أسجّل أمامكم نصّ الدعوة كما وصلتني بالضبط لم أبدّل فيها إلا أسماء الأنفس والمواقع:

الحاجّ محمود أحمد محمّد حمادي (أبو أحمد) وعائلته – الحاجّ حامد حميد حمد حمدان (أبو حميد) وعائلته

يتشرّفون بدعوة حضرتكم لحضور حفل زفاف ولدهم الغالي

* حمّودي *

وذلك يوم السبت الموافق 20/7/2024 ولتناول طعام العشاء الساعة السابعة مساءً في قاعات الفوارس

دامت الأفراح بدياركم عامرة

***

الإعراب

الحاجّ محمود أحمد محمّد حمادي (أبو أحمد) وعائلته: كلّ هذا السطر هو أبو العريس وملحقاته. دجّج نفسه بأربع آليّات للتعريف العَلَميّ. وهي على التوالي: الصفة التي تسبق الموصوف والاسم الرباعيّ والكنية والعطف. كلّها تعزّز الأنا وتنفخها وتضخّمها إلى حدّ التورّم. يستطيع الحاجّ محمود أن يباهي بحِجّته وآبائه وأجداده وكنيته وعائلته. هذا شأنه الخاصّ. وما كان ليعنيني لولا أنه يأتي مقدّمة لقمع فحوليّ دمويّ.

الحاجّ: هي صفة قد سبقت الموصوف وتقدّمت عليه فصارت مبتدأ الكلام. وأنا لا أفهم صدقًا حاجة الحاجّ محمود لأن يشير إلى نفسه بالحِجّة ويبدأ بها الكلام في زمن حجّت فيه كلّ البلد، أكثر من مرّة، ولم يبق فيها غير خمسة سيحجّون الموسم القادم! لا أفهم علاقة الحِجّة بالعرس. والحاجّ محمود يعيدني بحِجّته إلى ثلاثة أو أربعة عقود مضت حين كنّا نبحث في إعلانات الصحف الورقيّة عن سيارة مستعملة “يد أولى من طبيب!” الحِجّة والطبّ في هذه السياقات أدوات.

محمود أحمد محمّد حمادي: هو أبو العريس مسنود مرفوع وعلامة رفعه شجرة نسب رفيعة من الآباء والأجداد. ولأنّ الأسماء قد تتشابه وتختلط فيدفع أبو العريس باسمٍ رباعيّ الدفع يدفع به أيّ احتمال للخطأ والخلط. هكذا لا يفسح المجال لأحدٍ من المدعوّين أن يتحجّج. حين يذهب الحاجّ محمود أحمد محمّد حمادي (أبو أحمد) إلى مكاتب ضريبة الدخل ويسألونه هناك عن اسمه يجيب “محمود حمادي” ويترك بقيّة التعريف لرقم الهويّة. يتنازل عن الحِجّة وعن اسم والده وجدّه وكنيته ويكتفي باسمه الشخصيّ واسم العائلة. ولماذا يصرّ الحاجّ هنا على اسمه الرباعيّ؟! لم أفهم الفرق بين ضريبة الدخل والعرس!

أبو أحمد: هذه هي الكنية وهي زيادة في العَلَميّة. والكنية في البلاغة أخت الكناية من أمّها وأبيها. والكناية بنت عمّ البدل وعطف البيان. وكلّها أدوات احتيال جميلة على الحقيقة. أنا بصفة شخصيّة أحبُّ الكنية وأفضّلها على كلّ ألقاب الدنيا. فيها شيء من الاحترام والتبجيل الذي ألفناه على امتداد قرون. فيها تكبير وتعظيم لمفهوم الأبوّة. لكنّها تبدو “مبهبطة” أحيانًا. في الأعراس والانتخابات كلّ شيء يعظم ويضخم بين ليلة وضحاها مثل قرون البامية. من كان عندهم قبل الأعراس والانتخابات مجرّد نكرة يستخسرون فيه “المرحبا” يصير وقتها “الحاجّ أبو العفيف” مع أل التعريف.

وعائلته: اسم عامّ معطوف. والعطف في اللغة من أشكال التبعيّة. فلو غيّر الحاجّ محمود أحمد محمّد حمادي (أبو أحمد) المواقع وقدّم العائلة على نفسه وجعلها في الصدارة لتغيّرت مكانة العائلة وفقًا لتغيّر مكانها في الجملة. لو قال: “عائلة الحاجّ محمود أحمد محمّد حمادي (أبو أحمد – حاشاه من الجرّ والكسر) تتشرّف بدعوتكم….” لاختلف المعنى وصارت العائلة هي المبتدأ والحاجّ محمود مضافًا إليه… لكنّ الحاجّ محمود (أبو أحمد – حاشاه من النصب) لا يسمح ولن يسمح ولا يمكنه أن يسمح بأيّ تغيير قد يضرّ بمكانه ومكانته المتوارثة أبًا عن جدّ. لكن ما هي العائلة التي يقصدونها في دعوات أعراسهم؟ الجواب في شُعبتين: (1) هل العائلة هي أهل البيت؟ لا، الحاجّ أبو أحمد لا يقصد هذا المعنى القريب والمتاح وإنما يقصد “عِيلته” الحاجّة أم أحمد، زوجته، شريكة عمره، رفيقة دربه، أمّ أبنائه وبناته. “العِيله” في لغتنا التداوليّة هي الزوجة.. لكنْ لماذا لا يدعمها بالصفة ويسمّيها باسمها ثمّ يعزّزها بالكنية مثلما فعل الحاجّ محمود أبو أحمد مع نفسه بالضبط؟! يخصّص الحاجّ الفاضل لتعريف نفسه سطرًا كاملًا، أمّا هي فيختصرها ويقمعها قمعًا بلفظة “عِيله”، لفظة قلّتها أحسن منها في هذا المقام. (2) هل العائلة هي الأسرة؟ لا، العائلة غير الأسرة. العائلة اسم عامّ حاشد جامع في اللغة التداوليّة. وهي فيها أكبر من الأسرة. إذا اقتصرت الدعوة على الحاجّ محمود “أبو أحمد” وأسرته فقد تزعل العائلة الموسّعة. قد يزعل كلّ آل حمادي من صغيرهم المقمّط في السرير حتى كبيرهم الذي وصل إلى أرذل العمر. لا يدرك الحاجّ محمود “أبو أحمد” الفروقات المعجميّة بين العائلة والأسرة ولم يذهب إلى هذا الحدّ من التدقيق اللغويّ عندما اختاروا له في المطبعة نصّ الدعوة. كلّ ما يعلمه أنّ العائلة تشمل كلّ آل حمادي بالضرورة، ولا بدّ من تجنيدهم كلّهم للعرس، فيعلّق باسمهم كلّهم يافطة طولها عشرة أمتار وعرضها ثلاثة: “آل حمادي يرحّبون بالزوّار الكرام”، دون أن يستشير أحدًا منهم.

زِفاف: مصدر مضلّل كاذب. معناه النقل والحمل. أي نقل العروس وحملها من بيت أهلها إلى بيت زوجها. الزفاف على وزن فِعال مصدر يحتاج إلى اثنين: عروس وعريس. لكنّ المزفوف في الدعوة هو حمّودي العريس وحده. أسعدني الزفاف الذي يُحمل فيه العريس إلى العروس. أعجبتني الفكرة وإن كانت من حبرٍ على ورق. لكنْ أين العروس؟! ما اسمها؟! إلى من يزفّونك يا حمّودي؟! أم أنّ نصّ الدعوة هو آخر همّك في الدنيا؟! إذا كان أبوك جاهلًا يا حمّودي فأنت شابّ متعلّم!

حمّودي: اسم العريس (هو العروس في اللغة). لكنّ العريس لا بدّ أن يبني بعروس (هي العروسة في اللغة). ولا بدّ للعروس أن يكون لها اسم خاصّ بها، مثل العريس، كأن تكون “حمدة” أو “حميدة” مثلًا. غريب! غريب عجيب! كيف ترضى يا حاجّ حامد حميد حمد حمدان (أبو حميد) أنت وعائلتك بهذا الذلّ لابنتك؟! من أين تأتي بكلّ هذا الهوان والقبول؟! كيف ترضى أن يُزفّ نسيبك حمّودي إلى هباء خواء إلى حالة صفريّة عدميّة؟! هل اسمها عورة؟! هل تخجل باسم ابنتك يا حاجّ؟! كلّ هذا في كفّة وفي الكفّة الثانية دعوات لسهرات عرايس. هنا المصائب العظمى. وتكون على النحو التالي “الحاجّ حامد حميد حمد حمدان (أبو حميد) وحرمه يتشرّفون…”. ونحن لا نتشرّف بك يا حاجّ حامد ولا تشرّفنا مشاركتك. أمّ حميد منسيّة، أموال متروكة في تضاعيف الذاكرة العامّة، حتى في ذاكرة “أبو حميد” نفسه لا أثر لها. عِشرة عشرات السنين قد شُطبت فامّحت بكاملها في يوم زفاف ابنتها. لا ذكر لها ولا وجود لا باسمها ولا بكنيتها. أم حميد، التي خلّفت العروس، هي حَرَم. هي حرام. هي سوءة. هي لوثة. هي موبقة يحرم ذكر اسمها وجنسها.. من أين تأتون بكلّ هذا الانحطاط والقمع؟!

طعام العشاء: استعارة التفافيّة ماكرة للتعبير عن التبذير والبطر في زمن لا يجد فيه أطفال شعبنا ما يبلّون به الريق. علّمونا وقالوا “إفطر فطور أمير وتغدّى غدا وزير وتعشّى عشا فقير”. العشاء الذي يُقدّم على موائد الأعراس يكفي وحده لكلّ فقراء الشعب الفلسطينيّ لسنوات قادمة.. البوفيه العامر بكلّ صنوف الحلويات الشرقيّة والغربيّة والجنوبيّة والشماليّة والفواكه الاستوائيّة، المحمولة بالبواخر عبر المحيطات من شرق آسيا، هي للتزيين والتصوير والنشر في كلّ أدوات التواصل الاجتماعيّ. ولا أعرف لماذا لا يكتفون بشيء من التين والعنب والصبر والبطّيخ والشمّام؟! وقسم المكسّرات والقضامة، بصنوفها التي تعدّ ولا تحصى، وحده هذا القسم يكفي لفطور أمرائنا كلّهم، وما أكثرهم! لكنّه قسم للمباهاة والتفاخر. يصوم الحاجّ أبو أحمد شهر رمضان تضامنًا مع الفقراء، وفي عرس حمّودي يقيم الولائم العامرة بالخير على امتداد أسبوع كامل إلى حدّ التخمة والبطر! في البلد فقر، فقر كثير يا حاجّ. وفي البلد طلّاب علم يحتاجون إلى مالك الذي تبذّره في الحرام!

الساعة السابعة مساءً: ظرف زمان محدّد بدقّة لا قيمة له، غير ملزم لأحد ولا حتى لصاحب العرس نفسه الذي سجّله. غالبًا ما أذهب قبل الوقت المحدّد بنصف ساعة لأرى آخر المدعوّين يغادر بعد أن ملأ بطنه بطعام العشاء وخيرات البوفيه. وحين أصل لا أجد إلا نفرًا قليلا مثلي يحترم الوقت ويأتي “متأخّرًا”. وهكذا تصير الساعة السابعة مساءً أخت الخامسة عصرًا أو التاسعة ليلًا.. يدعوك الحاجّ محمود أحمد محمّد حمادي (أبو أحمد) وعائلته لحفل زفاف ابنه الغالي في عرس عربيّ من يومين (سهرة الحنّاء وطعام العشاء في ليلة تالية) لكنّه يجهّز نفسه لاستقدام المدعوّين قبل الحفل بأسبوعين كاملين. فينصب الخيم ويشعل الأضواء الفاقعة بألوانها وأحجامها حتى تغطّي مساحة حارة بكاملها ويفتح مكبّرات الصوت تصدح من قحف رأسها لأيّام معدودات. وهكذا يمتدّ العرس، الذي حدّده هو في يومين في الدعوة، إلى أسبوعين كاملين. وويلك إن تقيّدت أنت بيومين على نحو ما حدّده هو في الدعوة! من أغرب مفارقات الدنيا وأعنفها!

دامت الأفراح بدياركم عامرة: تعبير مجرور مكسور متهالك متآكل مهلهل. كان في الأصل للتمنّي والرجاء والدعاء. لن تعمر ديارنا بالأفراح إلا حين تحترم المرأة وتحترم العروس وتحترم أمّها وتنحني أمام مآسي شعبنا وتقدّس الوقت وتكفّ عن التباهي والتجنيد والتجييش والبطر والنفاق والكذب والرياء يا حاجّ… خِفّوا عنّا ولا تجعلوها مهرجانات للتبذير والبهرجة والتعطيل وإغلاق الشوارع ومصدر استنزاف عصبيّ وإرهاق لكلّ الناس. خِفّوا عنّا واجعلوها مناسبات أسريّة حميميّة جميلة تعمرْ ديارُنا بالأفراح وهدأة البال!

 

 

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

د. خالد تركي: نافذتي تُطلُّ على رواية “إِيفانوف في إِسرائيل”

د. خالد تركي نافذتي تُطلُّ على رواية “إِيفانوف في إِسرائيل” شاهدٌ على النَّكبة     …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *