أ.د. خالد سِـنداوي:
مقاربة في ديوان “أوراق الغروب” للدكتور صالح عبّود
نص المداخلة التي قُدّمت في نادي حيفا الثّقافيّ يوم الخميس 11/1/2024 بمناسبة إشهار الديوان.
عنوان الديوان:
هو المفتاح الرئيس في تأويل النصوص وهو العتبة الأولى التي تصادفها عين القارئ وتغريه بالأقبال على قراءة النصّ، ولذا فقد أولى كثير من المؤلّفين عنايتهم باختيار عناوين مدوناتهم وتفنّنوا في انتقائها، والعنوان هو المرجع الذي يتضمّن بداخله العلامة والرمز وتكثيف المعنى إذ يحاول المؤلّف فيه أن يثبتَ مقصده برمته بوصفِه النواة المتحرّكة التي خاط عليها نسيج نصّه، كما يعدّ العنوان إشارة سيميائيّة مختزلة تؤسّس لفضاء نصّي واسع قد يفجّر وعي المتلقي -أو لا وعيه- حمولة ثقافية وفكريّة.
وقد وسمَ الشاعر صالح عبود ديوانه بعنوان “أوراق الغروب” ففي كلّ إنسان شمس متى غربت يغرب معها، مع الغروب حكاية تخبرنا أنّه وإن غربت أشياؤنا الجميلة لا بدّ لها من الشروق في يوم آخرَ بجمالٍ آخر. فالشعر عن غروب الشمس هو من أجمل فنون الشعر التي يمكن أن يقرأها الإنسان، فالقصائد التي تصف الغروب لها إحساس وعاطفة رقيقة بغض النظر عن جنسيّة القارئ في تنقل حالة الحبّ والمودّة، وليس من الضروري أن تكون أوراق الغروب تعبيرا عن حالة عاطفيّة دون أخرى فهي ترتبط ارتباطا وثيقا بمشاعر الحبّ الصادق.
وبالطبع نعلم جميعا أنّ الحبّ لا يقتصر على المشاعر المتبادلة بين الرجل والمرأة. كما أنّ الحبّ هو حبّ الذات كذلك حبّ الأهل وحبّ الدين وحبّ الوطن.
وهذا ما تبنّاه الشاعر صالح عبود الذي أرجعَ حبّه لوطنه إلى أوراق الغروب مشيرا إلى أنّ الظروف السيئة في بلده تشبه إلى حدّ كبير منظر غروب الشمس وعندما رأى بلاده جميلة مثل الغروب وأكثر جمالا تُشرق مرّة أخرى، قال إنّه سيعود قريبا وينير العالم من جديد.
فالشاعر تناول الكلمات الأنيقة والعواطف القويّة التي تعبّر عن مدى المشاعر المكبوتة بهذه النغمات المميّزة. فالغروب هو انعكاس للأحاسيس التي تفيض في قلب الشّاعر، إنّه قصةُ الخير التي يواجهِها بمشاعره وآماله وأفراحه وذكرياته الجيّدة التي تفيض من هذا المشهد الاسثنائي، إنّه مشهد مليء بالهدايا التي نحبّها في كلّ مرّة.
فالشاعر يتأمّل أوراق الغروب فيفيض إحساسه وكأنه يريد أن يقول: إنّه غروبَ أرواح معها أنا وأنتَ وجميع مَن حولَنا قد تغربُ أرواحنا.
إنّ غروبَ الشمس هو من أجمل المناظر الطبيعيّة التي تعطي الهدوء والطمأنينة للنفوس، ويُعدّ هذا المنظر مصدر إلهام للشاعر، فيمكن أن يكون غروبا يعلّمنا أّنه لا بدّ من الرحيل، وأنّه سيرحل عنّا من نحبّ وسنرحل يوما عمّن نحب ولن يبقى سوى طيب الأثر.
فالشاعر في الغروب يمضي ويكمن الصمت وحكايات الشوق ويلتقي في غروب مجهول حيث الظلام يتمّ فيه تضييع الأحلام ويتوه في الصمت الهارب ويرسم من الخيال.
وفي الغروب تتطاير أفكار الشّاعر مع أقطار الزمن وكأنّه يقول: اصبِر والألمُ سيرحل عنك يوما أو ستتعايش معه كظلّ مَن تشرق الشرق الشمس وهو معَك، وبعد الغروبَ تكون وحدك، وفي الغروب نرى هموم الشاعر تتقلّب وتحبس الدموع وتفتح الذكريات وينسكب العبرات من اشتياق طال وحنين زادَ وفراق حال وجرح غار وحبّ ضاع.
وفي الغروب تتجلّى مشاعر الشاعر والأحاسيس الممزوجة بالحبّ والسكينة فهو نهاية سامية وعميقة وهو دليل على يوم جديد وولادة متجدّدة.
عتبة الغلاف:
يشكّل الغلاف العتبة الأولى للديوان والتي تقوم بوظيفة عمليّة هي افتتاح الفضاء الورقي، ويلعب الغلاف أيضا وظيفة كبرى في الدلالة على البنية الكليّة للديوان الشعري، فهو كالمرآة للمؤلّف فما يحمله النصّ يتجلّى للقارئ من خلال صفحة الغلاف التي تفصح عن جوهر الديوان والغلاف.
فالغلاف الأمامي رغم أنّه من تصميم الناشر أو الفنان التشكيلي إلا أنّ اختيار الغلاف وإخراجه بالصورة النهائية يقع تحت مسؤوليّة المؤلّف ذلك أنّ العَقْد القائم بين الناشر والمؤلّف يتضمّن موافقة المؤلّف وإقراره على الإخراج الفني للديوان.
ويتكوّن الغلاف الأمامي لديوان “أوراق الغروب” من عنوان الديوان واسم المؤلّف والعنوان التجنيسي واللوحة التشكيليّة بما فيها من الرسوم والألوان ولا بدّ من تضافر الحلية الشكليّة مع العلاقة اللغوية لإثارة المتلقّي وإغرائه للإقبال على قراءة النصّ وفكّ شيفراته.
توسّطَ عنوان الديوان أعلى صفحة الغلافِ وكُتب باللون الأبيض، وأسفل منه جملة نثريّة “تطايرت ذاتي في مهبِّ أوراقِ تشهد على حنين هو الغروب” ومن تحته جاء تجنيس المكتوب “مجموعة شعريّة” باللون الأبيض، وفي أسفل صفحة الغلاف دُوّن اسم المؤلّف “د. صالح عبود” باللون الأبيض، وقد عمد الشاعر إلى اختيار تقنيّة اللوحة التشكيليّة في منظر للغروب والشفق الأحمر وأوراق أشجار تتطاير في الهواء، ونرى أيضا فتاة ترتدي فستانا أسودَ تجلس متأملّة منظر الغروب، وأمامها قطّة تنظر إلى الفتاة نظرة حائرة.
وقد وسم شاعرنا ديوانه بعنوان “أوراق الغروب” ومن خلال النظر إلى كتابة العنوان كعلامة بصرية نلاحظ أنه قد كُتب بصورة أفقية ممتدّة وسط الغلاف ممّا يشي لنا بطول وقت الغروب، وينمّ اختياره لهذا العنوان تحديدا عن وعي تامّ ومقصود بهذا الاسم دون غيره.
وقد كانت عناوين ديوان أوراق الغروب ستّين عنوانا، وقد أطلق الشاعر على كلّ ورقة اسما خاصا.
ومن خلال المقاربة السيميائيّة التي تناولت فيها العتبات انطلاقا من الغلاف الأمامي يمكن القول بوعي الشاعر في توظيف عتبات ديوانه حيث شكّلت عتباته سيميائيّة مكّنت المتلقّي من تأويل دلالاتها للوصول إلى كُنهِ النصّ، فقد تضافرت العلامات اللغويّة والبصريّة في الغلاف الأمامي لديوان أوراق الغروب في إغراء المتلقّي بالإقبال على الديوان لفكّ شيفرات النصّ وسبر أغواره.
لقد استطاع الشّاعر في ديوان أوراق الغروب أن يوظّف العلامات السيميائيّة اللغويّة والبصريّة لأوراق الخريف التي أسهمت في نقل تجربته الفنيّة وتحوّلاتها من الشعر العمودي إلى الشعر الحداثي حيث شكّلت عتباته قيمة جماليّة، ودلاليّة تُغري القارئ بالإقبال على ديوان لاكتشاف نصوصه وسبر أغوارها.
اللوحة التشكليّة في العنوان:
وهي أيقونة تُحيل إلى الموضوع وتدلّ عليه فالصفة الدليليّة للأيقونة على التشابه تلزمها بأن تنتج فكرة مؤوّلة، وتتمثّل تفاصيل اللوحة التشكيليّة -كما أشرنا آنفا- في أوراق أشجار متطايرة في الهواء ممّا يجعل المتأمل في تفاصيلها يدرك حجم الدلالة في تلك الأوراق، وبهذا نجح الشاعر في اختيار علامات بصريّة مكّنت المتلقّي الربط بين اللوحة التشكيليّة وعنوان ديوانه، فأوراق الأشجار هي أوراق الغروب، وهذا يدعو إلى التأمل في قصائد الديوان واستكشافها.
استخدام لغة الحياة اليوميّة:
الشاعر صالح عبود شاعر حداثي يميل إلى التعامل مع لغة الحياة اليوميّة منها ينتقي ألفاظه وعلى هدي نظامها في تركيب الجملة والعبارة تسير أقدامه أحيانا. إنّ الإفادة من لغة الحياة اليوميّة فيما يبدو لي يرجع إلى طبيعة الموضوعات التي عالجها ويعالجها هذا الشعر حيث تبرز بينها الموضوعات التي تتعلق بقضايا الإنسان ومشكلاته لا سيّما تلك الموضوعات التي تتحدث عن (الغربة، والضياع، والحزن)
فالشاعر يعبّر عن موضوعاته بلغة مرتبطة بلغة الحياة اليومية والبيئات الشعبيّة، يستمدّ من الحياة الشعبيّة روحها وألفاظها وعباراتها.
وفي هذا التوجّه اللغوي وأهميته يقول ت.س. إليوت “إنّ الشعر يجب إلا يبعد ابتعادا عن اللغة العادية اليوميّة التي تستعملها ونسمعها (محمّد النويهي قضيّة الشعر الجديد، ص19)، ويوضّح إليوت مقصده هذا بقوله إنّنا لا نريد من الشاعر أن يقتصر على المحاكاة الحرفيّة لطريقته هو في الكلام العادي وطريقة أسرته وأصدقائه الخاصّة، لكن ما يجده في هذه البيئة هو المادة الغفل التي يجب يصنع منها شعره (ن.م. ص22)
وقد تمثّل شعر صالح عبّود دعوة إليوت هذه خير تمثيل في عدّة مستويات تشكّل في مجموعها سياسته في التعامل مع اللغة.
من خلال التمعن في الديوان يُلاحظ انّ استعمال لغة الحياة اليوميّة في الديوان جاء من خلال ثلاثة مستويات وهي:
-
التعامل مع الألفاظ المفردة العاميّة.
-
التعامل مع العبارة النامية.
-
التعامل مع مستوى التركيب النحوي العامي.
ففي قصيدة “موسى الحافظ” والتي نظمها الشاعرة بالعامية، وطعّم بعض كلامتها بالعاميّة المفصّحة تكشف بجلاء عن مدى عناية الشاعر بلغة الحديث اليوميّة ومدى استمداداته الشعرية من الألفاظ والعبارات المتداولة في الغناء الشعبي، ممّا يعني أنّ شعريّة قصيدة “موسى الحافظ” تتغذّى من لغة الواقع اليومي، فاستخدام الموروث والخبرة اليوميّة؛ خبرة الحياة وتجاربها واستلهام الروح الشعبيّة إنّما يمثل الخصيصة الأكثر بروزا في قصيدة موسى الحافظ.
التناصّ:
تشكل ظاهرة التـناصّ في الشعر العربي بُعدا فنيّا وإجراء أسلوبيّا يكشف عن التفاعل بين النصوص الحديثة والقديمة والالتقاء بين الحضارات إذ يتم استدعاء النصوص بأشكالها المختلفة على أساس وظيفي يجسّد التفاعل بين الماضي والحاضر.
فالتناصّ عبارة عن حدوث علاقة تفاعليّة بين نصّ سابق ونصّ حاضر لإنتاج نصّ لاحق إذ كلّ نصّ هو تشريب وتحويل لنصوص أخرى ومن شأن التناصّ أن يسعى إلى تخصيب النصوص وتلميحها بثقافات ورموز وإشارات من حومة السطحيّة والغنائيّة لتبدو قادرة على التحليق بالقارئ إلى آفاق جديدة.
روافد التناص في أوراق الغروب:
إن روافدَ التناص التي رفد منها هذا الديوان ترتكز على التناصّ الديني وتاريخ العرب، والتراث الحضاري، والإنساني، الذي ينهل من مصادر التراث العديدة.
إنّ الحديث عن التناصّ في هذا الديوان يأخذ القارئ إلى عوالم واسعة من التفكير ويقترب من حائط الحكمة كثيرا كما أراد الشّاعر، وقد سعى الشاعر في ديوانه إلى أن يُمسك بيد القارئ ويتآخيا ليصبحا فعلا على وشكِ الدخول إلى الحكمة ومن أوسع أبوابها خاصّة تلك الحكمة التي تشير إشارة ولا تصرّح كثيرا وما أكثرها في هذا الديوان.
نماذج من التناص:
في قصيد “اعتزل” (ص 14)
فاللئام تحلّقوا حول أسياد الطريقة
لم يعد يا سيّدي
في مرايا الصالحين
غير أذكار عتيقة
وفي قصيدة “سفر” يقول:
من قصّة الأعراب
ومن ثارات المهلهل
سفر قصير ينتهي
وفي قصيدة “أبابيل” (ص 28)
يقول:
هبطت أبابيل ُالسماء.
وفي قصيدة “الحقيقة” (ص 32) يقول:
وأرى الحسين ضحيّة مخذولة
ودماؤه سالت فجفّ وريد
ويزيدُ يلهو بالدماء دعابة
كم في بلادي غافل ويزيد
وفي قصيدة “تحويل” (ص 34) يقول:
هرمت عصا موسى
بعد أن قتلوا الحسين
مضرّجا بالرصاص وبالنقود
وفي قصيدة “جاهلية” يقول:
وهامة زنوبيا الحرّة تمقتني
تلعنني
تطعنني
من خاصرتي الممطرة سذاجة
ثاراتُ القادسيّة
أحببت ليلى
وفي موضع آخر من القصيدة نراه يقول:
جرني ذلك الغرور وخيلاء كُلَيب
وفي موضع آخر بالقصيدة يقول:
في غزوات قيسيّة ويمنيّة
وفي قصيدة طويله له وعنوانها: “وأد الحديد” (ص 58) يقول:
كسروا صليبي
وفي قصيدة “سؤال”
ذهب صالح عبود في هذه القصيدة إلى معارضة شوقي بالقافية والوزن وجاء التناصّ بينهما واضحا حيث يقول:
” تُرَى بالمالِ إِنَّا نَقْتَنيهِ
إِذا طَرَقَتْ لنا الأَرْزاقُ بابًا
أَمِ الجِسمُ السليمُ متى تَعافى
يُقَيِّضُ لِلشَجِيِّ إذًا نِصابًا
سُؤالٌ صُغْتُهُ بالشِعرِ نَظْمًا
أَجيبوني إِذا كُنْتُمْ لُبابًا
وفي قصيدة “فوز مهزوم”
” باعوا النفائِسَ وَاشْتَروا بِخَساسَةٍ
فَيْضَ النَّدامَةِ
تَسَوَّروهُ كَما الذَّهَبْ
طَرِبوا لِصَوتِ الثّاكِلاتِ
وَجَدَّدوا عَهْدَ الطَرَبْ
هَيّا اقْرَأوا تاريخَهُمْ مُسْتَكْرَهًا
بِصَحيفَةٍ مَلْعونَةٍ عُنْوانُها:
خابَ العَرَبْ”
وفي قصيدة ” وَيلٌ لِكلّ هَمْزةٍ“:
يبدو التناصّ في العنوان “وَيلٌ لكلّ هَمْزةٍ” جليّا رغم تحايل صالح عبّود بإبدال الحركات ليَخلُق بذلك جناسا تامًّا عبر التناصّ مع الآية الكريمة في سورة الهمزة [سورة الهًمَزَة:1]، ثمّ يتنامى التناصّ عبر دواخل القصيدة.
وفي قصيدة:”غرورها” (ص.92) يقول:
غرفة سوداء
تبلعني كحوت النون
القافية:
يضمّ الديوان ستّين قصيدة متفاوتة الطول مختلفة في الشكل متباينة في المعاني، راوح فيها شاعرنا بين العمودي والتفعيلي ونوّع في الأساليب، فغلبت على بعضها نزعة تأمليّة في الذات والحبّ والليل والمدامع وغيرها.
استخدم عبّود في ديوانه قوافٍ متنوعة منها الحرّة المقطعيّة، ومنها القافية الموحّدة -وهي قليلة- كما جاءت القوافي مقيّدة ومطلقة، وهذا التنوّع في القوافي لم يكن عشوائيّا وإنّما يرتبط بالحالة النفسيّة للشاعر.
فقد جاءت القوافي المقيّدة مرتبطة عند الشاعر بالموسيقى الحزينة التي يعكس الشاعر من خلالها الأحاسيس التي عاشها إثر استفحال الجريمة في الوسط العربي في البلاد، ففي قصيد “الحقيقة” (ص. 32) يقول:
باتَ الرصاصُ حقيقةً لوجودِنا والخوفُ والتهديدُ فينا يزيد
لا غروَ إن ماتتْ قلوبٌ خفقُها كُرهٌ وحِقدٌ فاسدٌ وصديد
وهذا ما أراد إيصاله من خلال تقييد قوافيه، ففي قصيدة “صفر”
يقول:
أعدّ حتى الصفر
أبلغ ما لا يبلغُه الحكماء
هناك توجعني حكمتي
فأمحوني وألوذُ بالغباءْ
فأعدّ حتى العشرة
وأنا دون سباتي
في أحلام ورجاء
التصريع:
وهو جعل نهاية الشطر الأوّل مشابهة لنهاية الشطر الثاني وقد عدّه الخليل بن أحمد من محاسن الكلام. ويدلّ التصريع على اقتدار الشاعر وسعة بحره ويُعرف لدى القدماء بجسن الاستهلال والتوازن الصوتي، وقد اهتمّ به الشعراء القدامى، وقد يصرّعون مطالعهم كما في المعلّقات.
جاء التصريع عند شاعرنا في القصائد العموديّة نظما موسيقيّا وإيقاعا ممّا أكسب القصائد حلاوة وعذوبة وهذا ما أشار إليه حازم القرطاجني في قوله: “فإنّ للتصريع في أوائل القصائد طلاوة وموقعا في النفس لاستدلالها به على قافية القصيدة قبل الانتهاء إليها ولمناسبة تحصل بإزدواج صنعتي العَروض والضرب وتماثل مقطعهما لا تحصل لها دون ذلك”.
فالتصريع هو دليل قدرة الشاعر وفحولة طبعه وعدم تصنّعه فهو مذهب.
أمّا التصريع عند الشاعر صالح عبود فكان حاضرا في عدّة قصائد فنجد ذلك مثلا في قصيدة “تحتَ” (ص. 48)
أتحتَ الأرض قد دُفن الكرامُ ونام البِشْر يشغله المنامُ
حيث تمثّل التصريع في كلمتَي الكرام وكلمة المنام.
فكلاهما ينتهي بنفس المقطع وبحرف الرويّ الميم المضمومة الذي يدلّ على الحدّة والقطع، فلجأ الشاعر إلى التصريع لإثراء معجمه الإيقاعي والتأثير في النفس وجعل العروض مقفّية تقفية الضرب.
ونجد التصريع أيضا في القصائد التالية:
“تلك”، “سؤال”، “ابتلاء”، “شفاه السحاب”، “عادل”، “ما عدتُ”، بناءُ الهدم”، وقصيدة “عراقُنا”.
إجمال:
إنّ الدكتور الشّاعر صالح عبّود عبر إنتاجه الشعري الغزير يضعنا أمام رؤية فنيّة خاصّة تؤسّس لمذهب شعري يتميّز به ليس في اللغة والأساليب والمعاني وبناء الصور الشعريّة فحسب، بل ما نجده من لغة ميتاشعريّة يتحوّل الكلام خلالها من شعر إلى وراء الشعر، ويُعدّ ديوانه مثالا جليّا على ذلك، وهكذا تبدو تجربة الشّاعر في هذا الديوان تجربة تأمليّة تجمع بين شخصيّة المبدِع للشعر والقارئ له في ذات الوقت، وقد أبان في ذلك عن حسّ عميق بماهيّة الشعر ووظيفته ومقتضياته فارتحل بنا إلى مدارات قصيّة تجعل من كتابة الشعر وقراءاته مغامرة معرفيّة تكمن لذّتها في كونها ضرب من ضروب تحرير اللغة والتحرّر بها من أجل السفر إلى مكامن الذوات واستكشاف أسرارها.
أخيرا أقول:
أيها المُكرّم الصديق صالح، أيُّها الـمُحتَفون به مُكرمّا
إنّ لقاءَنا في هذه الأمسيةِ لتكريم “الدكتور صالح عبّود” يعني اتـفاقنا على تكريم الإبداع الأدبي، والبحث الأكاديمي والأدب والمُتابعة، شكرا لك على ما أبدعته، وعلى ما أهديته للبحث الأكاديمي من أبحاث خالدة ستظلّ شاهدة عن عبقريّة عبّوديّة، يا فارسَ القلمِ وسحبانُ الخَطابة.
تحيّاتي وتمنّياتي لك بصحة جيّدة وحياة سعيدة والمزيد من العطاء والإبداع.