ونحن نقف على عتبة الأعوام تستوقفنا كثیرٌ من الأبواب التي شرّعناھا في كلّ عام، نتأمّل أمكنتھا، زوایاھا، انتصاراتنا، ھزائمنا، خیباتنا، أیادي الوفاء التي أمسكت بأیدینا في طرقات العتمة البعیدة، الأكتاف التي سندتنا ذات تعب، طعناتِ الغدر، أحلامنا التي تحقّقت، خیبات الأمل مع كثیرٍ ممّن بنینا جسورًا من الثّقة معھم، لقاءاتٍ مع الحیاة ذات صفوٍ، عتمة قارعاتٍ أتاھتنا.
كلّ شيءٍ نعود إلیه في رحیل كلّ عامٍ مرّ عنّا، وعبر بكلّ حقائبه في محطّاتنا، نغلق أبوابًا ھنا وھناك، ونلملم بعض یومیّاتنا التي لم تكتمل بعد أنْ جاءھا الخریف وبعثر ملامحھا، ونفرغ زوایا بقي الصّمت فیھا شھورًا حتّى أعیاھا، ونقف على ھزائمنا التي كانت من طعنةٍ في الظّھر من یدٍ منحناھا الدفء طویلاً، ولكن قست في غرس خنجرھا فینا، ونوصد كلّ تلك الأبواب، ونمضي
بعیونٍ أتعبھا التّرقّب وما وجدت سوى ضبابٍ یغطّي الأمكنة، وبردٍ وجلیدٍ خطف الدّفء من القلب والخطى، وكأنّنا لا نرید أن نترك بابًا موربًا، فطالما أخذنا النّدم لأن منحنا البعض فواصل البقاء في عوالمنا، وھم لا یستحقّون سوى النّقاط الأخیرة. فلا عام یأتي دون أن نقبض على أقلامنا؛ لنمحو كلّ
كلماتٍ كانت الأخیرة في سطورٍ وأدركنا أنّھا النّھایة لصفحاتنا، حینھا ندرك أنَّ لا ذنب للأعوام فینا، نحن من أثِم بالخطیئة، لتصبغ أوراقنا وأجنداتنا بسواد السّطور
بعد ھذیاننا بھا. أشیاؤنا ما عدنا نمتلكھا، مرّ العابرون فسرقوھا، مرّ اللّیل فخطفھا، وعبر الحنین فما وجد شیئًا. ویرحل كلّ شيءٍ كما الفصول، كما الشّمس في نھارھا ومغیبھا، كما القمر في محاقه، كما الشّجر في شتائه، كما الطّیر بعد ضیاع أعشاشه. وكذلك الأعوام في سِفْرھا، تكتب أرقامھا، وتأتي بحقائب فارغة، وفي عدّتھا شھورھا وأیامھا وساعاتھا ودقائقھا، وتقضي شھورھا بیننا، نحكي لھا كلّ حكایانا عَبر الفصول، وتسرق تفاصیلھا وتھرب بھا بعیدًا حتّى تصل آخر طریقھا معبّأة بقصصنا القصیرة حینًا، والطّویلة الأزلیّة أحیانًا. ونحن نسیر بأملٍ آخر وبروحٍ تبحث عن المطر فتحضنه؛ لتنبت من جدید، وبأماني عمرٍ آخر نرسمه على سیقان شجرات السّرو وعلى جناحي الطّیر عندما یمضي في صباحاته بین السّماء والسّماء. فھذا ھو الإنسان، بین وداعه لسنةٍ تركت كلّ خطاھا فیه، وبین سنةٍ آتیةٍ لا یعلم منھا غیر رقمھا الجدید، فیكتب لھا أمنیاته وآماله؛ لتخبِّئھا عن الرّیح قبلَ أن یمرّ، ویمزّقھا ویمضي بعیدًا عن المارین.