نادي حيفا الثّقافيّ: كلمة الباحث أ.د. خالد سنداوي في الأمسية التكريميّه التي أقيمت بتاريخ: 18/1/2024 

 

KODAK Digital Still Camera

نادي حيفا الثّقافي

نصّ كلمة الباحث بروفيسور خالد سنداوي التي ألقيت في الأمسية التكريميّه، بتاريخ 18/1/2024 بمناسبة إشهار كتابه “دراسات في الشيعة الإماميّة”

مساء الخير للجميع؛

الأهل والأصدقاء والضّيوف والأحبّة، زملائي على المنصّة مع حفظ الألقاب والمناصب.

أيّها الحفل الكريم؛

بداية أقول:

أحيـيكم وأرحب بكم أجمل ترحيب في هذا اليوم الجميل وأشكر مشاركتكم لنا هذه البادرة الاحتفاليّة الثقافيّة الحضاريّة، وشكر خاصّ للسيّد الأستاذ فؤاد نقّارة رئيس نادي حيفا الثقافي، وطاقم نادي حيفا الثقافي على جهودهم الرائعة في تنظيم هذه الأمسيّة التي تحمل عَبَق التحيّة الطيّبة لرجل قدّم -وما زال يقدّم-جهودا جبّارة في دعم ورصد المشهد الثقافيّ في البلاد، فقد جاد بوقته وجهده ولم ينتظر مقابلا من أحدٍ، وفي مثلِ هذه المواقف قال المتنبي:

لا خَيْلَ عِندَكَ تُهْديهَا وَلا مالُ   فَلْيُسْعِدِ النُّطْقُ إنْ لم تُسْعِدِ الحالُ

الرجل الذي عمل وتفانى من أجل هدف سامٍ ونبيل جادَ بجهدِه ووقتِه فللهِ دَرَّهُ، وهذا ليس بمستغربٍ عليه، ولن أوفيَه حقّه مهما سطرتُ من عباراتٍ، فأنتَ يا فؤاد المحرّكُ الفعّاُل في هذا الصرحِ الثقافي المبجّل الذي سيبقى يحمل لأهل الفضل فضلَهم، عطاؤك بحر متلاطم الأمواج لا ينكرُه إلا من به عَوَجٌ وفي عينيهِ رمَدٌ، نهنئ نادي حيفا الثقافي بقامة سامقة تحملُ مثلَ مواصفاتِك من الهدوءِ والطيبةِ والأخلاقِ والمهنيّة، ومَن أراد أن يرتقي للمعاني الراقية والصفات الحميدة فليقتدِ بشخْصِكم.

أخواني؛

لقد عوّدنا نادي حيفا الثقافي أن يكون منبرا من منابر تكريمِ العِلم والـمُنـتسبين إليه في زمن انفردت فيه بهذه المنقبَةِ. إنّ لهذا التكريمِ طعمًا خاصّا في نفسي، ومبادرةً كريمةً تحملُ معانيَ الوفاءِ والامتنان والبرور. ومحلَّ فخري واعتزازي، وأثمّن تلك الجهودَ النـيّـرةَ التي يفخُر بها كلُّ مُنصفٍ. وهو يمثّل عندي حافزا لتحقيق المزيد من الأبحاث والتّميز، كما أنّه لفتة كريمة تدفعني بلا شكّ لمزيد من العطاء، فشكرا مرّة أخرى لنادي حيفا الثقافي والقائمين عليه وبشكل خاصّ السيد فؤاد نقّارة رئيس نادي حيفا الثقافي، على هذه البادرة التكريميّة الطيّبة وعلى جهوده في إعلاء صوت القلم العربي في البلاد، فله جزيل الشكر وأمنياتي له بدوام النشاط والصحة والعافية والمزيد من العطاء، كما وأشكر كلّ الّذين ساندوني في مسيرتي العلميّة، من زملاء، وباحثين في البلاد وخارجها، وأخصّ عائلتي الكريمة.

وفي الحقيقة إني عاجز عن الشّكر، لكنّني أعترف وألتمس من الشّاعر قولَهُ:

ولو أنّني أوتيتُ كلّ َبلاغةٍ      وأفنيتُ بحرَ النّطقِ في النّظْمِ والنَّـثرِ

        لما كنتُ بعدَ القولِ إلا مقصّرا  ومعترِفا بالعَجزِ عن واجِبِ الشّكْرِ

أيّها الحفلُ الكريمُ، لقد غاصت كلماتي برحيق الياسمين ولففتُها بزهرِ البنفسجِ، وجئتُ أقدّمُها إليكم اللّيلة عربونَ وفاء ومهر محبّة وتقدير. ومن حقّكم عليّ في هذه المناسبة أن تعرفوا العوامل الّتي رفدت مسيرتي وأثرتها وصقلت شخصيّتي وبلورتها حتّى صرتُ على ما أنا عليه اليوم واخترتُ أن أتوقف عند محطّة هامّة وفارقة في مسيرتي الأكاديميّة وهي: “قصّتي مع دراسة الشّيعة الإمامية”

في عام  ألفٍ وتسعِمائةٍ وخمسةٍ وثمانينَ 1985 وأثناء دراستي في جامعة حيفا للّقب الأوّل في قسم اللغة العربية وآدابها انتسبتُ إلى حلقة دراسيّة حول “أدب الشّيعة” عند أستاذي البروفيسور المرحوم -طيّب الذِّكر- جورج قنازع، ومن خلال هذه الحلقة وجدت نفسي مشدودا ومنجذبا بقوّةٍ مغنطيسيّةٍ بكلّ جوارحي لموضوع الشيعة، وأصبحتُ مولعا بحبّ الموضوع والتعمّق فيه، وكنت كلّما استزدتُ فيه عِلما زاد شغفي فيه أكثر فأكثر، وكمقولةِ الحلّاج: “لم يزدني الوِردُ إلا عطشا”،  وفي تلك الحلقةِ الدراسيّة كتبتُ دراسةً عن “حادثةِ غديرِ خُمٍّ وانعكاسها في أدب الشّيعة” لاقت الدراسة استحسان مرشدي ومنحني علامة عالية، في مرحلة الماجستير تركتُ الشيعة لفترةٍ مؤقّتة وكتبت رسالة الماجستير عن “الصورة الشعرية عند فدوى طوقان”، وبعد إنهاء الماجستير سرعان ما عادت الشيعة تراودني مرّة أخرى، واختمرت في ذهني، وشدّني الحنينُ إليها، وكما قال الشّاعرُ العبّاسي أبو تمّام:

نَقِّل فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِنَ الهَوى     ما الحـُـبُّ إِلّا لِلحَبيبِ الأَوَّلِ

فعدتُ للدراسات الشيعيّة مهرولا إليها مرّة أخرى في كتابة أطروحتي للدكتوراة، حول “مقتل الحسين بن علي وانعكاسها في أدب الشيعة”.

وخلال فترة إعدادي لأطروحة الدكتوراة خضتُ في غمار المصادر الشيعيّة الأدبيّة والعقائديّة، وأصبحتُ مولعا بحبّ الموضوع أكثر فأكثر، ولا زال هذا الحبّ مستمرّا، ويجري في عروقي.

بعد حصولي على شهادة الدكتوراة عام ألفَين 2000 استمريتُ في كتابة أبحاثٍ في الشيعة وما يتفرّع منها، من مجالات متعدّدة: تاريخ، أدب، عقيدة، وفكر، شعائر وطقوس دينيّة شيعيّة، المجموعات الأدبيّة الشّيعيّة شعرا ونثرا، الخطب، المناسبات الشّيعيّة، ظاهرة التشيّع في بلدان العالم، وغيرها. وقد تناولت موضوع الشيعة منذ نشوئها في القرن السّابع للميلاد ولغاية يومنا هذا.

ولا بدّ هنا من مصارحتكم بحقيقة واجهتها خلال مسيرتي البحثيّة، فقد اتّـهمني بعض السَّطحيين والقِشْرِيِّين الـمُتثاقفين الـمُضَلّلين الـمُغرِضين؛ اتهموني بالتشيّع اتّهاما باطلا بلا بـيّنة ولا برهانَ، وأصدروا بحقّي أحكاما سريعة، جهلا منهم ونقصا في معلوماتهم، ففي الواقع إنّ أشنعَ بِدعةٍ يَقدحُ أُوارَها أهلُ الغفلَةِ هي تبديعُ بعضِهم للبعضِ الآخرِ وحطُّ بعضِهم من قَدَرِ مخالفهِ واتّهامُ بعضِهم لدينِ بعضٍ.

 ولكنّي كباحث أكاديـمي في الشّيعة خلالَ ربعِ قرنٍ ونيّفٍ اتّبعتُ في أبحاثي مبدأ الحيادِ الموضوعيِّ قدر َالإمكانِ الّذي يحتّمهُ البحثُ العلميُّ، والالتزامَ بقواعِده العامّةِ، وتخلّيتُ عن الأحكامِ المسبقةِ الّتي أطلقها خصومُ الشّيعةِ، كما ترفَّعتُ عن الحَطِّ أو المسِّ بأيّ موضوع من عقيدة الشّيعة، ولم أُقحم الذّاتيّ الخاصّ في الموضوعيّ العامّ.

ومن أجل فهم الشّيعة بشكلٍ أعمقَ، وبسبب طبيعة تخصّصي استدعت الحاجة أن أتعلّمَ اللغة الفارسيّة بالإضافة إلى الفرنسيّة، فتعلمتهما لمدّة سنـتَين، وقد أتاح لي تعلّمي الفارسيّة -بشكل خاصّ- الاطّلاع على أمّهات المصادر والدّراسات الفارسيّة، والثقافة الفارسيّة.

خلال مسيرتي الأكاديـميّة أصدرتُ ما يزيد عن مائة بحث نشرتها في مجلّات عالميّة محكّمة، وأَلّفتُ ثلاثةَ عشرَ كتابا. وشاركتُ في عشراتِ المؤتمراتِ العلميّةِ العالميّةِ، والمحليّةِ حولَ الموضوعِ،  ولعلّ من أبرز إنجازاتي كان حصولي على منحةٍ ماليٍّة دسمةٍ من وزارةِ الخارجيّةِ الأميركيّةِ عام ألفَين وتسعةٍ 2009 لتقديم سلسلةِ محاضراتٍ، وعرضِ أبحاثي في جامعة كليفورنيا- سانتا باربرا، وجامعة يوتا، لمدّة ثلاثة أشهر، وكذلك تمّ استدعائي عام  ألفين وأربعةَ عشرَ 2014 من قِبل قسم الدّراسات الشرق أوسطيّة في جامعة برينستون في ولاية نيوجيرسي لإدارة وتقديم ورشة عمل لمدّة شهر التقيتُ فيها بكبار باحثي الشيعة من شتّى أنحاء الولايات المتحدة، ودول العالم، الأمر الذي أتاح لي تبادل الخبرات الأكاديميّة مع خيرة الباحثين، وقد استفدتُ كثيرا من تلك التجربة الثَّرَةِ على أكثر من مستوى.

ومن أجلِ تتبّع الإصدارات الجديدة زرتُ معرضَ القاهرة الدولي للكتاب أكثر من عشرين مرّة، وزرتُ أيضا معارض كتب ومكتبات ومعاهدَ للمخطوطات في جميع أنحاءِ العالمِ، ومراكزَ للدراسات الشيعيّة في عدّة دول، وخاصّة مركز الدراسات الإسماعيليّة في لندن، والمركز الحسيني للدراسات في لندن، واقـتنيتُ المئات من أمّهات المصادر والمراجع الشيعة، حتى أصبح السّوادُ الأعظمُ من مكتبتي الشّخصيّةِ البيتيّةِ مُتشيّعًا حتّى النّخاعِ يضاهي بمصادره حَـوزَة شيعيّة.

وبــعــد،
يرتفع السّؤال ويتبرعمُ، هل وصلتُ بما قدّمته وأنا اليوم قد ذرفتُ على السّتينَ؟ الإجابة طبعا بالنَّفي، لأنّ الوصول معناه حتميّا قرب النّهاية، وأنا لا أريد أن أنتهي هنا، بل أطمح للمزيد ليكون الآتي أفضل ممّا كان، ألَـم يقُل الشّاعر التركي ناظِم حِكْمت حين سُئل ما القصيدةُ الأجملُ عندَك! قالَ: تلكَ الّتي لم أكتبْها بعد، وطالما في الجسِدِ بقيّةٌ من روحِ وفي الرّأسِ فكر سأستمرُّ حتّى يقضيَ اللهُ أمرا كان مفعولا.

وأخيرا لا يسعني في هذا المقام إلاّ أن أتقدّمَ بالشّكر الجزيل لكلّ من ساهم في إقامة هذه الأمسيّة التّكريميّة لكنّ الشّكر الكبير هو لكم أيّها الأهل والأصدقاء والأحبّة على دعمكم وتحمّلكم وصبركم. أنتم جميعا زيتُ مصابيحي. الّتي آمل أن تظلّ مشتعلة. أسأل الله أن يديمَكم لتبَقوا شجرة خضراءَ وارفةَ الظّلالِ منها نـمتحُ وإليها نـفيءُ. شكرا لعائلتي الكبيرة الدّاعمة. وشكر خاصّ لعائلتي الصّغيرة، لهديّة الزّوجة الوفيّة المضحّية والمعطاءة والمتفانية الّتي عاشت معي سنوات عجافا كثيرة، ولأولادي البررة الدكتور أحمد والصيدلانية آية والدكتور رازي على صبرهم. شكر خاصّ لكلّ وسائل الإعلام ولمواقع الإنترنتّ، والشّكر الجزيل موصول للزجّال الفنّان الـمُبدع والمتألّق ابن دالية الكرمل أبي كنان توفيق حلبي، الذي أضفى على الأمسيّة لمسةً سحريّةً ورونقا بديعا جذّابا وبهجة أثّرت في نفوس الحضور، وشكر خاصّ موصول

للحبـيـب فؤاد نقّارة الذي سهر وبذل جهودا كبيرة لإنجاح هذه الأمسيّة.

كما أتوجّه بالشّكر الجزيل للأخ المحامي علي رافع على تولّيه مشكورا عرافة هذه الأمسيّة وإدارتها بتألّق وباقتدار وإبداع، وبلغته الرشيقة وثقافته وارفة الظلال، وبأنيق حرفِه وطيبِ كلامه، وعلى تقديمه العذبِ الجميلِ لي. كما وأشكر الدكتورَين راوية بربارة والدكتور صالح عبود على مداخلتَيهما الرائعتَين والـمُثْريتَين، كما وأشكر الأصدقاءَ والزّملاءَ وأفرادَ عائلتي الكبيرة والصغيرة الذين جاؤوا من أماكن قصيّة  – من الجليل وهضبة الجولان، وجبل الكرمل، والمثلث والنقب والقدس-، وتجشّموا مشاقّ السَّفر وحضروا لمشاركتي هذا التكريم، فلكم منّي جميعا وافر الشّكر وجزيل الامتنان.

ولكم أقول:

كرمتُموني وما مثلي بخيركُمُو    لكنَّ وفاءَكمو عندي هو الكَرَمُ

فبارك اللهُ مسعاكَم وآزرَكُــــمُ      وسدّدَ الخطوَ يا مَنْ كلُّكُم شَمَمُ

إذ لولا الجذور المطمئنّة في الثّرى ما كانت الأغصان ترفع هامَها. فأنتم جذوري الضّاربةُ في رحمِ التّاريخِ، لذلك أقولُ لكم قولَ الشّاعرِ العبّاسيِ الـمُؤمِّلِ بنِ أُمَيلٍ المحاربيِ:
لا تحسبوني غنيّا عن مودّتِكم    إنّي إليكُم وإنْ أيسرتُ مُفتَـقرُ.

وأقول لكم قول الشّاعر عُمارة اليمني:

لَيْتَ الكَوَاكِبَ تَدْنُو لِي فَأَنْظِمَهَا   عُقُودَ مَدْحٍ فَمَا أَرْضَى لَكُمْ كَلِمِي

أفاخر بكم الدّنيا وأقول لكم قول الفرزدق:
أولئكَ آبائي فجِـئني بمثلِهم   إذا جمعتْنا يا جريرُ المجامِعُ

لكنّ الشّكر الكبير هو لكم أيّها الأهلُ والأصدقاءُ والأحبّةُ على دعمِكم وتحمّلِكم وصبرِكم..
دمتم لنا جميعا ينبوعَ عطاءٍ ودعم دافئا لا ينضبُ أبدا، بل يراهقُ النّضوبَ.

 

تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.

شاهد أيضاً

عبد الله عصفور: قراءة في كتاب “صيّاد سمكه وصنّارة” للأستاذ فؤاد نقّارة

  عبد الله عصفور قراءة في كتاب “صيّاد سمكه وصنّارة” للأستاذ فؤاد نقّارة   جميلٌ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *