كلمة الأديب نايف خوري في أمسية د. فهد أبو خضرة في نادي حيفا الثقافي، 30.5.2024
نايف خوري
ليس مجرد قاموس
التقيت بالدكتور فهد أبو خضرة، منذ عشرات السنين.. وواكبت أعماله وإصداراته الإبداعية شعرا ونصًّا، وكنت أعتبره المرجع والعارف بأمور اللغة والتي طالما استشرته فيها، فكان يقدم المشورة والنصيحة موضحًا كل جوانبها. لم يبخل ولم يضن علينا يوما بمشورته حتى لو كانت عن بعد.. وتقدمت بنا الأيام، فوجدت نفسي أتعاون معه في عدة نشاطات أدبية وثقافية، إن كان في البرامج الإذاعية الثقافية، أو في مركز البادية في عسفيا، أو في تأسيس مجمع اللغة العربية في حيفا، والذي وضعنا حجر الأساس له قانونيا وتنظيميا، وهو اليوم لا يزال عاملا بكل انتظام ونجاح.
لقد كانت المشاريع الثقافية الضخمة، بل الإعجازية هي التي يُقدِم على تنفيذها الدكتور أبو حبيب. وطالما تمكن، بل نجح في تطبيقها، حيث يشاركه في العمل الأصدقاء الأوفياء، والمساعدون الملتزمون. وها نحن نقف اليوم أمام عمل لا يقل أهمية عن أي مشروع وبرنامج مما أبدعه الدكتور أبو خضرة.
هذا القاموس الوافي للإنجيل المقدس.. كلمات بغاية البساطة وبالغ الأهمية. القاموس لا يكتبه إلا علماء اللغة.. فأي قاموس هذا؟ إنه بتنظيم القاموس العادي ولكنه غير عادي.. لأننا نرى لأول مرة عملا أدبيا ثقافيا من هذا القبيل. لا سيما أن الإنجيل المقدس وضعه عدد من الكتاب، وكان اثنان منهم تلميذين للسيد المسيح، وآخرون غير تلاميذ. لكن الكنيسة اعتمدت أربعة أناجيل هي لمتى ويوحنا ومرقس ولوقا.
فالعهد الجديد الذي نحن بصدده اليوم يتألف من سبعة وعشرين سفرا وضعت كلها باللغة اليونانية. وأطلق عليه هذا الاسم، العهد الجديد، في القرن الثاني للميلاد. وهو يشمل الأناجيل الأربعة، كتاب رسائل القديسين، وسفر الرؤيا. والدكتور أبو خضرة وضع قاموسه للأناجيل الأربعة فقط دون سواها.
كلمة الإنجيل في اليونانية (إيوانجيليون) تعني البشارة السارة أو البشرى السارة أو بشرى الخلاص، في شخص يسوع المسيح، ولم يكن الإنجيل في الأصل كتابًا أو مؤلَّفًا أدبيًا أو تاريخيا.
بعد عام150 أصبحت الحاجة في الكنيسة إلى قاعدة شاملة تنظم المؤلفات الدينية حول يسوع، تمهيداً لإدراجها ضمن قانون الكتاب المقدس، فكان المعيار المتبع صحة نسبتها إلى الرسل، وكانت الأناجيل الأربعة وفقًا لصحة نسبها إلى الرسل من وجهة نظر الكنيسة، ولِما تحلّت به صفات تتطابق مع التقليد الشفهي، وذلك بعد نقاشات طويلة، إذ لم ينته ضم جميع الأسفار حتى نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع .أما تلك الكتب التي لم تثبت صحة نسبتها، فقدت تدريجيّاً أهميتها كأسفار مقدسة في الكنيسة، ولدى المسيحيين عامة.
أما تأليف أسفار العهد الجديد، وضمها في إطار واحد، فهو نتيجة تطور طويل معقد، إذ يظهر العهد الجديد كمجموعة الأسفار السبعة وعشرين مختلفة الحجم، وضعت جميعها باللغة اليونانية أواخر القرن الأول؛ إن السلطة العليا في أمور الدين كانت تتمثل لدى المسيحيين الأولين في مرجعين، العهد القديم، والمرجع الثاني العهد الجديد، الذي انتشر انتشاراً سريعاً، وقد أجمعوا على نسبته إلى يسوع، ويشمل هذا المرجع على التعاليم التي ألقاها يسوع، والأحداث التي تُبين سلطته. أما أقوال يسوع وما كان يعظ به فقد تناقلتها ألسن الرواة شفهيّاً، وربما وجدت بعض الوثائق المكتوبة لروايتي الصلب والقيامة، أو بعض الأحداث الهامة الأخرى؛ ولم يشعر المسيحيون الأوائل، إلا بعد وفاة آخر الرسل بضرورة تدوين التقليد الشفهي، فبدأوا قرابة العام120 بكتابة العهد الجديد، مبتدئين بأسفار بولس، نظراً لما كان له من شهرة، ولأنه أوصى بقراءة رسائله بنفسه، وتشير كتابات آباء الكنيسة في القرن الثاني إلى أنهم يعرفون عدداً كبيراً من رسائل بولس، وأنهم يولونها مكانة الكتب المقدسة، وتبيّن أن أقدم الإشارات التاريخية تعود للعام140 تثبت أن المسيحيين يقرأون الأناجيل في اجتماعات الأحد، وأنهم يعدونها مؤلفات الرسل، أو أقلّه شخصيات تتصل بالرسل بشكل وثيق، وأنهم أخذوا يولونها منزلة الكتاب المقدس.
فتمت كتابة الأناجيل الأربعة القانونية – متى ومرقس ولوقا ويوحنا، وهي المصدر الرئيسي للمعلومات عن حياة يسوع. لكن مؤلف كل من هذه الأناجيل الأربعة مجهول، وعليه فقد تمت إضافة الأسماء الحالية للأناجيل في القرن الثاني، ومن المؤكد تقريبا أن أيًا منها لم يكتبه شاهد عيان على حياة يسوع، ما عدا يوحنا. وبالتالي، فإن العلماء المعاصرين يتوخون الحذر من الاعتماد عليهم بشكل لا يقبل الشك، ومن خلال الدراسة النقدية يمكن محاولة التمييز بين الأفكار الأصلية ليسوع، وتلك الخاصة بالمؤلفين اللاحقين.
إن أقدم النصوص المتوفرة للعهد الجديد ترقى إلى القرن الثالث، وقد كتبت باللغة اليونانية على قطع من الجلد، ويعتبر المجلد الفاتيكاني أقدمها ويعود لحوالي العام250 وسبب تسميته لأنه محفوظ في مكتبة الفاتيكان، وكذلك المجلد السينائي الذي يعود لحوالي العام300 ، وهو من محفوظات المتحف البريطاني في لندن، وسبب تسميته اكتشافه في دير القديسة كاترينا في سيناء؛ غير أنه يوجد عدد كبير من البرديات والمخطوطات التي يعود أقدمها إلى بداية القرن الثاني، وتظهر أجزاءً مختلفة متفاوتة الطول من العهد الجديد.
إن نسخ وطبعات العهد الجديد ليست كلها واحدة، بل تحتوي على مجموعة من الفوارق، بعضها بقواعد الصرف أو النحو وترتيب الكلمات، ويتعلق بعضها الآخر بمعنى الفقرات، إن أصل هذه الفروق يعود لأن نص العهد الجديد قد نسخ طوال قرون عديدة، وبلغات مختلفة بيد نسّاخ تتفاوت صلاحية أعمالهم، ما يؤدي حكمًا إلى أخطاء عديدة في النسخ، سوى ذلك فإن بعض النسّاخ حاولوا أحيانًا أن يعدّلوا بعض الفقرات، التي بدت لهم أنها تحتوي على أخطاءً، أو قلّة دقةٍ في التعبير اللاهوتي، إلى جانب استعمال نصوص فقرات عديدة من العهد الجديد، في أثناء إقامة شعائر العبادة، ما أدى أحيانًا إلى إدخال زخارف لفظية غايتها تجميل النص.
إنجيل متى، الذي كُتب في جبيل أو ربما في أنطاكية للمسيحيين من أصل يهودي خارج فلسطين حوالي العام80 أو 90، وينسبه التقليد الكنسي منذ النصف الأول للقرن الثاني لمتى أحد التلاميذ الاثني عشر، ثم إنجيل مرقس وهو أقدمها تاريخيًا كتب حوالي سنة60 أو65 في روما خلال الفترة التي شهدت اضطهاد نيرون، وقد كتب للمسيحيين من أصول وثنية؛ ويعتبر أقصر الأناجيل، يغلب عليه سلسلة روايات قصيرة غير مترابطة فيما بينها، وقد نسب إلى مرقس كتابة سفر أعمال الرسل، وربما إلى يوحنا ذي الأصول اليهودية، وهو تلميذ ومرافق لبطرس، واعتمد عليه في كتابة إنجيله؛ أما إنجيل لوقا ثالث الأناجيل، فيعود تاريخه إلى ما بعد حصار أورشليم وتدمير هيكل سليمان عام70 أي بحدود العام 80، وهو موجه بالتحديد إلى إحدى الشخصيات النبيلة اليونانية، التي تدعى ثاوفيليوس، ومن ثم للمسيحيين ذوي الثقافة اليونانية بشكل عام. يتميز هذا الإنجيل، إنجيل لوقا، بأنه الوحيد الذي يفتتح بمقدمة كما كانت كثير من المؤلفات اليونانية في تلك الأيام.
يطلق على الأناجيل الثلاثة الأولى اسم الأناجيل الإزائية، بسبب تشابهها في ترتيب الأحداث وفي الصياغة العامة، ويفترض علماء اللاهوت وعلماء نقد النصوص، أن كلاً من متى ولوقا اطلعا على إنجيل مرقس، واعتمدا عليه كمرجع أساسي في تأليفهما.
ويضاف إلى كل إنجيل مصادرُه الخاصة من التقاليد الشفهية، هناك 500 آية خاصة بلوقا وحده، و330 خاصة بمتى، في حين أن 53 آية فقط خاصة بمرقس، ما يؤكد ما توصل إليه الباحثون باطلاع متى ولوقا على إنجيل مرقس الأقدم تاريخيًا؛ وعلى الرغم من هذا الائتلاف الشديد في النصوص فإن الأناجيل تتضمن وجوه اختلاف في البنية العامّة، وهيكلية السرد، إضافة لبعض التفاسير وفقًا للرؤية اللاهوتية لكل منهم والرمز المراد منه.
أما الإنجيل الرابع، فهو إنجيل يوحنا، يتميز ببناء أدبي خاص، كما يغلب عليه الطابع اللاهوتي من ناحية الخطب والصلوات، ولا يهتم بسرد الأحداث بقدر ما يهتم باستخلاص معانيها.
تتشارك الأناجيل الأربعة في قصة مسيرة يسوع الدنيوية حتى موته وقيامته، وهو الحدث الأهم في المسيحية، ولكنها غير متناسقة التفاصيل. يقدم يوحنا والأناجيل الإزائية الثلاثة على وجه الخصوص صورًا مختلفة بعض الشيء لمسيرة يسوع. لم يشر يوحنا إلى حدث المعمودية، ولا التجربة، ولا التجلي، ولا يذكر العشاء الأخير ليسوع إلا في اليوم السابق للفصح، كما لا يذكر قصص أسلاف يسوع وولادته وطفولته.
يعتقد البعض أن الأناجيل الأربعة تحقق المعايير الخمسة للموثوقية التاريخية؛ وهي تقدم فكرة جيدة عن مسيرة يسوع. ولكل إنجيل فهمُه الخاص ليسوع ولدوره الإلهي.. ولذا وضع الدكتور أبو خضرة كتابه هذا معجمًا تفسيريا للمفردات الواردة في الأناجيل، ويمنح التفسير لهذه المفردات وليس للجمل والأقوال. كما أنه لا يفسر ولا يشرح الكلمات من كل إنجيل على حدة، بل يأخذ الكلمات بترتيب ألفبائي ويشرح معانيها، كما يورد مصدرها في الإنجيل.
إن القاموس الوافي للإنجيل المقدس لم يُكتب للمسيحيين فقط، فهو لكل باحث ودارس ومهتم بالاطلاع على مفردات الإنجيل. كما يوضح الدكتور أبو خضرة أن كلمة الإنجيل المفردة تجمع فيها كل الأناجيل.. وعددها أربعة أناجيل، ولذا فهو يتطرق إلى مفرداتها معتبرًا إياها إنجيلا واحدا.
خلاصة القول إن الإنجيل المقدس كان ولا يزال مدار أبحاث ودراسات وتفاسير تتعلق بالمفاهيم اللاهوتية، والسيرة الذاتية، والأحداث القصصية والأبعاد الإنسانية، والفكرية والأسس التي قامت وتقوم عليها المسيحية، ولم يكتب قط مثلُ هذا القاموس في أي دراسة أو بحث أو شرح أو تفسير.. فهو منفرد ومتفرد، مميز ومتميز بامتياز.. فليكن بين أيدي الباحثين والعلماء مرجعا ومصدرا يعودون إليه بثقة واطمئنان وتأكيد. فنبارك للدكتور فهد أبو خضرة، معلمِنا، وأستاذِنا، هذا القاموس الذي سيبقى خالدا، خلود الكلمة.
تعبّر هذه المواضيع المنشورة عن آراء كتّابها، وليس بالضّرورة عن رأي الموقع أو أي طرف آخر يرتبط به.